حسن حنفي ومشروع “التراث والتجديد”:أسس المشروع وبيانه النظري/د.جيلالي بوبكر ج1
مقدمة
المتصفح في كتب الفكر العربي الإسلامي الحديث
يجده ذا طابع إحيائي وإصلاحي وثوري ضد الاحتلال تارة وضد الأوضاع
الاجتماعية والثقافية والسياسية الفاسدة تارة أخرى،أما الناظر في كتب الفكر
العربي والإسلامي المعاصر يجده ذا طابع تحديثي تجديدي،ينطلق أصحابه من
الحاضر وما يختص به من حداثة وتجديد في الفكر والثقافة والعلوم والفلسفة
والفنون والصنائع وسائر المنجزات المادية في الواقع نحو الموروث الثقافي
والحضاري من أجل دراسته وتحليله ونقده بوسائل وأساليب عصرية ومن منظور
معاصر يحرص على ضمان ملائمته مع المتغيّرات والمستجدات التي يشهدها العالم
المعاصر،وهي مهمة تصدّى لها العديد من المفكرين خاصة دعاة التجديد وأصحاب
المشاريع الفكرية في العالم العربي بمشرقه ومغربه،ومن هؤلاء الباحث والمفكر
“حسن حنفي” صاحب مشروع “التراث والتجديد” وهو مشروع يتصدّر الواجهة في
الساحة الفكرية والثقافية العربية والإسلامية المعاصرة.
ما جعل فكر “حسن حنفي”متميزا وفلسفته متميزة
ومشروعه متميزا هو كتاباته وأبحاثه ومواقفه المتميزة بالوجاهة والجرأة على
الرغم من الانتقادات التي تتعرض لها بل زادتها الانتقادات قوة
ومناعة،مقالات كانت أو كتب أو حوارات أو غيرها تعالج مختلف القضايا في
الفكر والثقافة والسياسة والحضارة تعكس معالم مشروعه الحضاري وبيانه، وهو
مشروع أفصح عنه صاحبه في كتابه ‘التراث والتجديد،موقفنا من التراث
القديم’،بدأت معالمه تتبلور وملامحه تتكشّف منذ بدأ”حسن حنفي” في طلب
العلم في الجامعة وانخرط في عالم البحث العلمي واتضح ذلك في أول دراسة قام
بها حول أصول الفقه سمّاها “مناهج التفسير” وفيها تأكدت لديه الحاجة إلى
مشروع فكري ثقافي حضاري قومي نهضوي ينهض بالأمة ويعيدها إلى وضعها الطبيعي،
ويمكّنها من امتلاك شروط النهضة وأسباب التقدم الحضاري والازدهار الثقافي
انطلاقا من الواقع المعاصر وتطوراته المختلفة وانطلاقا من التراث القديم
ليصبح حاضرا في الواقع المعاصر ويصبح الواقع المعاصر ماثلا في التراث من
خلال التعامل مع التراث من منظور معاصر والتعامل مع الواقع من منظور تراثي،
فثنائية التراث والواقع أو الماضي والحاضر تدخل في المنظومة الإبستيمية و
الفكرية التي تؤسس لمشروع نهضوي يبني منظومته على إستراتيجية إعادة بناء
التراث القديم وإيجاد تفسير محكم للواقع وضبط صلة الأنا بالآخر في إطار
مرجعية التراث والتجديد واسترتيجية إعادة البناء ومعاودة الصياغة وفق منظور
معاصر ورؤية جديدة إلى التراث وإلى الواقع وإلى الأنا وإلى الآخر.
تؤكد سائر دراسات وكتابات “حسن حنفي” قدرة الفكر
العربي والإسلامي المعاصر المحافظة على ذاته واستقلاله وعلى واقعيته
ومعاصرته في أن واحد إذا ما أدّا الفكر
والمفكر الرسالة المنوطة بهما،الفكر ككيان فعّال ومنفعل يتعاطى مع الواقع
بسلبية وبإيجابية والمفكر كشاهد وشهيد،وإذا ما اعتمدا على مفاهيم قراءة
التراث وتحليله ونقده والحكم عليه، وقراءة الواقع المعاصر وتحليله ونقده
والحكم عليه وقراءة الأنا والآخر، كل ذلك من أجل النهوض بوعي مستقيم خلاّق،
وبمعرفة دقيقة وبتجديد الحياة ومواكبة العصر والمفاهيم تتعدد وتتنوع كما
تتغير تبعا لخلفياتها الفكرية والمنهجية ووفقا لمستثمريها كاتجاهات ومشاريع
فكرية، مثل مقولة الأصالة ومقولة المعاصرة ومقولة الحداثة ومقولة التقليد
ومقولة التجديد ومقولة التغريب وغيرها، وهي مقولات يزخر بها الخطاب الفكري
النهضوي العربي والإسلامي المعاصر.
لقد فتح”حسن حنفي”مشروعه “التراث والتجديد” وفلسفته
على أكثر من صعيد، فهو يكافح على جبهات ثلاث، يبدي موقفه الحضاري ويؤسس
لمنظومة قيّم ودلالات فكرية وفلسفية تبنّاها المشروع، جبهة التراث العربي
الإسلامي والموقف منه وجبهة التراث الغربي الوافد والموقف منه وجبهة الواقع
بكل أبعادها.فالجبهة الأولى والموقف منها جعل منه مفكرا إسلاميا تراثيا
مبدعا والجبهة الثانية والموقف منها جعله مفكرا غربيا أما الجبهة الثالثة
والموقف منها جعله صاحب مشروع حقيقي وجريء في السياسة والاجتماع والأخلاق
والحياة عامة.هذه الإستراتيجية مرتبطة بالعقل والنقل و الواقع، لأن العقل
هو الذي يعي ويقرأ ويحلل وينقد ويبني ويركب ويكشف ويغيّر ويطوّر ويجدد،
يبني الواقع ويصنع التاريخ والحضارة. ولأنّ النقل وراء إنتاج الحضارة لأمة
لها ماضي وتراث تاريخ ودين، وتأثير المنتجات الفكرية والعلمية للحضارة
الإسلامية لازال يطبع نفوس أصحابها على الرغم من مرور الزمن عليها. ولأن
الواقع يجد فيه صاحبه آماله ويعيش أحزانه، فيه حياته في جميع مستوياتها
الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقراءة المقولات
الكبرى في الفلسفة التي يقوم عليها مشروع “التراث والتجديد”، مقولة العقل
ومقولة النقل ومقولة الواقع، وقراءة صلة هذه المفاهيم ببعضها البعض يدل
بوضوح على ورودها بمدلولات متعددة ومتباينة تبعا لمرجعياتها ، فهي أخذت
نصيبها من التحليل في مستوى أرقى من الدقة والعمق والكفاية. لكنها تبقى
دوما تعبر عن مواقف صاحب المشروع الفكرية والفلسفية والإيديولوجية
والسياسية كما يغلب عليها الطابع التاريخي أحيانا والطابع التجريدي في
أحيان أخرى على الرغم من أنّ المشروع يعطي الأولوية للواقع دون غيره.
لا يستقيم حال الأمة العربية الإسلامية ولا يعرف
النهضة في زمانها الحاضر في غياب وعي تاريخي جديد وفي انعدام فلسفة تاريخ
جديدة تعتني بالحقبة التاريخية التي تعيشها الأمة اليوم. بدون الوعي
التاريخي الجديد يصبح حاضر الأمة ومستقبلها ووجودها مليئا بالغموض والإبهام
والشمول ومجهولا ومفتوحا على كل التوقعات وتصبح الأمة عاجزة عن وعي حاضرها
والتطلع إلى مستقبلها. والموقف الحضاري من التراث ومن الأنا ومن الآخر ومن
الواقع في المشروع يشكل رؤية تحليلية نقدية للتاريخ العربي الإسلامي في
إطار التاريخ الإنساني العام، كل هذا يشكل نقطة نوعية في الشعور العربي
الإسلامي من منظور حضاري شامل يعطي الأمة مجالا رحبا فسيحا للأمل والعمل.
وفلسفة التاريخ وتتضمنه من وعي تاريخي لا تنفصل عن فلسفة السياسة والوعي
السياسي الذي ينطلق من مبدأ الثورة والتثوير ، الثورة في وجه الأوضاع
الثقافية والفكرية الفاسدة وتثوير قيّم التراث لتتحول إلى واقع ماثل ومعاش،
واقع تحكمه التراثية الواعية والعقلانية المفتوحة والعلمية والحرية،
والحكمة العملية التي تجمع بين الأخلاق والسياسة والتربية.
إنّ إعادة بناء العلوم القديمة علوم النقل وعلوم
العقل مهمة الجيل المعاصر في العالم العربي والإسلامي بعدما أصبحت عامل
انهزام وضعف، لتكون عامل تقدم وازدهار، وكانت من قبل عامل قوة وتحضر، ومع
تغيّر البيئة الثقافية والحضارية وغلبة العلوم الطبيعية التجريبية
والتكنولوجيا توزع الفكر بين الإنساني القديم والإنساني الحديث والمعاصر.
والنهضة الجديدة التي يحتاجها الوضع الحضاري وهي من صميمه تنطلق من التراث
الذاتي باعتباره أداة مواجهة ومساهمة معا،مواجهة التخلف ومساهمة في بناء
الحاضر واستشراف المستقبل في إطار إستراتيجية الموقف الحضاري في المشروع من
التراث وعلوم الحكمة فيه ومن علاقة الأنا بالآخر من خلال التحكم في صورة
الأنا وصورة الآخر وصورة العلاقة بين الاثنين،فالعلاقة تتضح والجدل يمكن
تجاوزه عندما تبرز الصورة وتتضح في الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة،
وعندما يتحول الغرب التاريخ والثقافة والفكر والفلسفة والدين والحضارة إلى
موضوع بحث ودراسة فيقوم الاستغراب في مقابل الاستشراق، الاستغراب الذي يقضي
على عقدة النقص في الأنا ويدحض مركب العظمة في الآخر، فيرى وعي الآخر
حدوده ويكشف وعي الأنا عن طاقاته ويمكن لكل منهما أن يصل إلى وعي إنساني
جديد.
إنّ الغاية النهائية للوعي الإنساني الجديد
تحويل الوحي إلى علم إنساني شامل وإيجاد موقف من الواقع الذي يفتقد إلى
نظرية التفسير، وقيامها في المشروع يجمع بين الوحي والواقع، بين التراث
وقيّم العصر، بين الدين والدنيا، وبين الله والإنسان، هذه الثنائيات مازالت
تعبر عن وعي إنساني كلاسيكي منهجه تحليلي استعراضي شارح، وعند المقابلة
والمقارنة بين نظرية في التفسير وبين منهج تحليل الخبرات يتضح أن منهج
تحليل الخبرات الذي يبدأ من الواقع وليس من النص و المأثور والعرف، والنضال
في جبهة الواقع غرضه تحويل التراث إلى علوم إنسانية والربط بين الواقع
والوحي في وحدة عضوية داخل الإنسان وفي سلوكه الفردي والاجتماعي. وغياب
الموقف الحضاري من الواقع في العالم العربي والإسلامي المعاصر فجّر فيه
أزمة الإبداع الفكري والفلسفي وعمّق أبعادها وعجّل بالسقوط في أحضان الآخر
من مركز ضعف وعقدة نقص وفكرة المركز والأطراف، لا من باب التواصل الحضاري
المبني على التأثير المتبادل الذي يسمح لكل طرف المساهمة في إنتاج الحضارة
وصنع التاريخ ولا سبيل للتخلص من الهوة وللنهوض والتحرر من الأزمة إلاّ
باتخاذ موقف حضاري في وعي مبدع تجتمع فيه المواقف الحضارية الثلاثة معا في
الجبهات الثلاث من خلال إعادة بناء النص الشعبي المورث ورد النص الوافد إلى
حدوده الطبيعية وتأكيد تاريخيته والحرص على الرصد الإحصائي للمؤثرات في
مسار الإنتاج والتوزيع وتحديد الفاعليات القادرة على التغيير ومعرفة النص
التراثي المؤثر في المجتمع سلبا وإيجابا. وأهم ميزة في المشروع والتي تمثل
المبدأ التاريخي الإنساني الجديد قاعدة الموقف الحضاري من الأنا والآخر ومن
التراث والواقع ومن الماضي والحاضر التثوير، تثوير الأنا وتثوير التراث
وتثوير الواقع، فالتثوير في التراث يعني إعادة بناء التراث وفق مقتضيات
العصر ومستجداته والتثوير في الموقف من الآخر بدراسته وتحليله ونقده ورده
إلى حدوده الطبيعية من خلال علم الاستغراب، أما التثوير في الموقف من
الواقع فيقوم على إيجاد نظرية التفسير المحكمة التي تقوم بالتنظير المباشر
للواقع.
تمثل الفلسفة التي انبثق منها مشروع “التراث
والتجديد”مبادرة جادة وجريئة تتصدر الواجهة في الخطاب الفكري والفلسفي
العربي والإسلامي المعاصر، تتحدد معالمها بمواقف صاحبها تجاه قضايا وهموم
ومشكلات عصره،موقفه من الفكر والفلسفة ودورهما، من الأصالة والمعاصرة
والتقليد والتجديد والعقل والنقل والواقع وفلسفة السياسة والتاريخ وأزمة
الإبداع وجدلية الأنا والآخر والثورة والتثوير وهي منظومة مفاهيمية وفكرية
ذات طابع ثوري تثويري تؤسس لمشروع في جانب التراث من حيث مفهومه ومستوياته
باعتباره مسؤولية شخصية فردية واجتماعية وقضية وطنية في سياقها التاريخي
الذاتي المحلي والإنساني العالمي، وفي جانب التجديد من حيث مدلوله والحاجة
إليه أمام أزمة ثورة وأزمة بحث علمي وأزمة منهج بحث،وجانب التراث والتجديد
باعتباره المشكلة الجوهر، ومشكلة المنهج في الفكر الإسلامي تصدّى لها
المشروع بمناهج التجديد وميادينه واكتمل مخططه واتضح بيانه النظري واتضحت
سماته وخصوصياته والفلسفة التي صدر منها.
هذا الكتاب موسوم “ب”،تضمن فصلين، انصب الفصل الأول على
قراءة مواقف “حسن حنفي” الفلسفية من أمهات قضايا الفكر والفلسفة والثقافة
في العالم العربي والإسلامي المعاصر، قضية التخلف، دور الفكر ورسالته،
الأصالة والمعاصرة، العقل والنقل والواقع، فلسفة التاريخ، الفكر السياسي،
نحو فلسفة إسلامية جديدة،نظرية التفسير، أزمة الإبداع والتثوير في الموقف
الحضاري وغيرها، ومواقف المفكر تشكل الفلسفة التي انبثق منها المشروع وتمثل
إستراتيجيته الفكرية والنظرية، وهو مشروع يقوم على اختيارات مفاهيمية
وبدائل إبستيمية ومنهجية ارتبطت بالتراث وما يتضمنه وبالتجديد وما يتطلبه
وبمشكلة التراث والتجديد وهي مشكلة موضوع ومشكلة منهج ومشكلة بيئة، كل ذلك
تناوله الكتاب بالدراسة والتحليل مبيّنا مخطط مشروع “التراث والتجديد”
وبيانه النظري وسماته وفلسفته. يتبع
http://assala-dz.net/ar/?p=1444
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire