« O mon dieu accroît mes connaissances ! »114 Tâ-Hâ

« O mon dieu accroît mes connaissances ! »114 Tâ-Hâ
سألت قلبـي كيـف أمسـيت بعــد الفـراق؟ .. فـأجابنـي .. وهـل للـرماد إحـساس بعـد الإحتـراق ؟؟

dimanche 1 décembre 2013

في سجــن العقــل من حلم التحرر إلى كابوس الاستبداد الدكتور المنصف المرزوقي

 

 

 

في سجــن العقــل


من حلم التحرر إلى كابوس الاستبداد



الدكتور المنصف المرزوقي

 


 


وسائلة أي المذاهب مذهبي                   وهل كان فرعا في الديانات أم أصلا

وأي نبي مرسل أقتدي به                     وأي كتاب منزّل عندي الأعلى

فقلت لها لا يقتني المرء مذهبا               وإن جلّ إلاّ كان في عنقه غلا
تتلمذت للإنسان في الدهر حقبه              فلقّنني غيّا وعلّمني جهلا
نهاني عن قتل النفوس وعندما             رأى غرّة منّي تعلّم القتل
وذمّ إليّ الرقّ ثم إسترقني                   وصوّر ظلما فيه تمجيده عدلا
وكاد يريني الإثم في كل ما أرى            وكلّ نظام غير ما سنّ مختلاّ
إلا أن رأيت النجم يطلع في الدجى         لذي مقلة حسرى وذي مقلة جذلى
وشاهدت كيف النهر يبذل ماءه             فلا يبتغي شكرا ولا يدعي فضلا
وكيف يزين الطل وردا وعوسجا           وكيف يروي العارض الوعر والسهل
وكيف تغذي الأرض الأم نبتها             وأقبحه شكلا كأحسنه شكلا
فأصبح رأيي في الحياة كرأيها              وأصبحت لي دين سوى مذهبي قبل

إيليا أبو ماضي

 





مقدمة



هذا الكتاب من أقدم مخطوطاتي ويمكن عدّه من كتابات الشباب . أذكر أنني كنت أستجمع له الأفكار ليالي الحراسة في مستشفى سترازبورغ في بداية السبعينيات بين توقف قلبي , وتقّي لتر من الدّم . وكانت كتابة صعبة محمومة , حوارا بيني وبين نفسي مفارقة كنت لا أقبل الردّ عليها المتوفر آنذاك بين صفوف المثقفين التقدميين  .  انطلقت من أسئلة الجيل : لماذا الاستعمار , لماذا الاندثار الحضاري , لماذا العقم العلمي والفلسفي والفني , لماذا الدكتاتورية , في عالم فيه شعوب متقدمة غازية , خلاقة و ديمقراطية الخ ... تطور السؤال ليصبح بسرعة كيف نخرج من التخلف , من العقم الحضاري ومن الفقر , من الاستبداد بالرأي والقرار ؟ هكذا ووجهت يوما ككلّ شباب العرب منذ قرن بهذه التساؤلات وبكل الحلول المقترحة للردّ عليها ...
ومن ثمة فقد كان علي أن أنزل أنا الآخر إلى السوق الأيديولوجية لأختار المرهم السحري والدواء الناجح الذي سيشفي كل أمراض الأمة . وكانت السوق زاخرة بأصناف البضائع - الأدوية : إسلام سلفي , إسلام تقدمي , قومية عربية , ماركسية لينينية , ماركسية تروتسكية , ليبرالية غربية وحتى القومية التونسية ...
وقد كانت عملية الاختيار لا تخضع لحكم مبني على التدقيق في الجودة البضاعة وتجربة لها ما كانت مرتبطة باعتبارات ذاتية تتغير بتغير ظروف الساعة والحساسية الشخصية والتأثيرات الخارجية .
لقد بدأت الحيات الفكرية ككل الشباب عربي في مناخ متشبث بجذوره الإسلامية: قدوته ومثاله في الحياة عمر
 الخطاب, لا لشيء إلا لأنه قال " إنني أعجب لامرئ يموت جوعا ولا يخرج شاهرا سيفه على الناس " , أو لقوله
3 بارك الله في امرئ قوم اعوجاج عمر " . وكان اقتناعي بأن كل الإيجابيات في تاريخ الأمة العربية من الإسلام
( الفتوحات , الحضارة , التماسك , الصمود في وجه الاستعمار الخ ..) . وكان تعلقي به إذن تعلق متين , قوي , وعميق , إلا أن الشك داهمني بطول المدّة , لا شك الميتافيزقي المعتاد في هذه المرحلة من العمر , وإنما شك أعمق وأمرّ استعصى على العلاج , خاصة وأنه خلافا لما حدث للغزالي( النموذج الحضاري في مثل هذه المواقف العصبية)لم أصب " بنور قذفه الله تعالى في الصدور وذلك النور هو مفتاح أكبر المعارف " .
وقد اضطررت إليه ونحن نواجه إبان الدراسة الجامعية بمنهجيات أخرى ونظريات أخرى أجبرتني على المقارنة والتشدد في استخلاص النتائج .
وكانت خواطري المضطربة تدور دوما حول نفس المحاور : إن كان الإسلام العقيدة المثلى فكيف نفسر انحطاط المسلمين ؟ وهل يمكن الاكتفاء بالحجة الواهية إن تركهم للإسلام هو الذي أدى بهم إلى الانحطاط , أليس هذا الكلام بمثابة الادعاء بأنه لولا عدم نزول المطر لما كان الجفاف ؟
ثم هالني الفرق بين النظرية والواقع : من جهة تعاليم مثالية لم يفرط فيها من شيء ومن جهة أخرى ممارسة قرون طويلة من العبودية ( لم يلغي الرق في بعض البلدان الإسلامية إلا في ...1960 ) من ظلم المرأة , من التحجر الفكري , من  أشرس أنواع الاستبداد السياسي . وكان من الطبيعي أن تتلقفنا الأيديولوجية الماركسية ونحن في تلك الحيرة , لأنني لم أكن فردا معزولا وإنما جزء من جيل .
وكانت آنذاك ( الستينات ) في أوج قوتها وانتشارها , خاصة في الجامعات التي كنا نرتادها لنبحث عن العلم نام عنه أهلنا قرونا طويلة , ولم لهم منه إلا ذكريات باهتة لانتصارات ولت ومضت . لا همّ لهم إلا التذكير به آناء الليل وأطراف النهار ليتناسوا رداءتهم وعمقهم الحالي . واستهوتني النظرية خاصة في تأكيدها على أنها نظرية الحركة ونظرية التحرك , ولا يمكن أن تصاب بالجمود والتحجر لوجود محرك داخلي فيها أسمه الجدلية يجعلها تتجدد غبر موتها . "فحجبت " إلى الصين الشعبية يوم كانت محرمة على السواح لأنني تصورتها قلعة الفكر والممارسة الثورية , باحثا في تنظيم ''الكومونات'' وفكر ماو_تسي تونج  والطب كما يمارسه الأطباء الحفاة حلا لمشاكل بلدي , لكن الشك اللعين لم يلبث أن داهمني مرّة أخرى لينغّص عليّ راحتي الفكرية واطمئناني إلى اختيار الطريق الأصوب .
وقد بدأ الشك نظريا بحتا معزولا في البداية عن الإشكالية السياسية .
فهاهي الدعائم النظرية التي بنت عليها الماركسية دعائمها , أي علم القرن التاسع عشر تتهاوى أمام انفجار النظريات العلمية الجديدة كالنسبية théorie de la relativité والفيزياء النووية la mécanique quantique ونظرية الكوارث théorie des catastrophes  ونظرية النظام théorie de systèmes التي أذابت مفهوم المادة ودمرت معنى القانون وسخرت من خرافات السببية الميكانيكية النيوتينية , لكن الأخطر من هذا أنني لاحظت نفس الظاهرة التي لاحظتها إبان فترتي الإسلامية , أي التناقض المريع بين النظرية والممارسة ( وبين النظرية وتنبؤاتها ) فأداة التحرر المطلق أدت هنا أيضا إلى اعتي أنواع الديكتاتورية في شكل الستالينية , ونظرية التحرك الجدلي في النظرية والممارسة أدت إلى " سد باب الاجتهاد " , وفي حالة وقوعه إلى تراشق السباب بين " المؤمنين " , فهذا " تحريفي " والآخر يساري مصاب بمرض طفولي , وذلك تروتسكي بوخاريني رجعي لم يفهم الوصفة أو خانها عن قصد مثبتا بخيانته هذه صحة تنبؤات الكتب المقدّسة في فقرة كذا الخ ...
وكان علينا أن نؤمن بأن العمل الصهيوني هو الحليف الموضوعي للعامل الفلسطيني , والعامل الأبيض في جنوب إفريقيا رفيق كفاح العامل الأسود , وإن طبقة المحظوظين " النومنكلاتورا " في الاتحاد السوفياتي ليست طبقة مسيطرة , وإن عدم ملكية الفلاح لأرضه أمر واجب , وإن الرئاسة العائلية والرئاسة مدى الحياة وكبت الحريات والحرب بين البلدان الاشتراكية والحد من حرية شعوب بأكملها والتدخل عسكريا في شؤونها لمنعها من ممارسة حقها في الاستقلال أمور لا علاقة لها بالنظرية الماركسية الصحيحة الحقة . وهنا كنت أتذكر مقولات سمعتها في السابق فإذا بعقلي يترجم ساخرا " ما أجمل الماركسية وما أقبح الماركسيين " ليضيف بمرارة : وما الفائدة من النظريات الكاملة المكتملة التي تتولد عن مثل هذه الأخطاء وهذه الفظاعات التي تتركب ضد الإنسان , والتي لا يجوز الاحتجاج عليها بالواقع ؟
وكان مخاطبي هنا أيضا يحاول إقناعي بأن القدر لا بد أن يستجيب وانه عندما يطبق هو وشيعته " الماركسية الحقيقية " فإن الأمور ستعود إلى نصابها وكنت آنذاك أهز كتفي وقد أصبح الشك عندي يقينا , فكم رددوا مثل هذه التعلّة في السباق وكم من شيع وصلت بها على الحكم فإذا بالجبل يتمخض فيلد ... خازوقا .
وبما أن الطبيعة لا تحب الفارغ والفكر أيضا فقد قررت هذه المرة أن أبحث في الغرب نفسه عن هذه النظرية المثالية التي ستفسر لي العالم وتجعله مفهوما مستساغا من العقل والقلب , وعن برنامج للعمل قد يشكل الحل لتحقيق عالم الأخوة والعدالة والمساواة التي كنت وما أزال أبحث عنه بتعطش الإنسان الذي عانى طويلا من مرارة الظل
 والحرمان . هنا لم يطل تعبدي في المحراب , فقد كنا نعيش في خضم هذا الغرب المهيمن المسيطر , وكنت كعربي مهزوم حضاريا أرفض تلقائيا سيطرته عليّ بكل قواي ( وما كان بحثي عن حل في الإسلام أو في الماركسية إلا محاولة يائسة للخروج من فلكه ) , فقد اكتشف بسرعة إنه إذا كانت دعامات الفكر العقائدي الإسلامي أو الشيوعي صلبة بقدر مبالغ فيه , فإن دعامات الفكر الغربي الحديث متحركة بقر يصعب احتماله , فالفكر هنا في حالة صراع دائم ونظرياته في ميدان العلوم الإنسانية في تنافس وخصام شديدين . أما علومه الصحيحة فقد اتضح لي أنها ليست صحيحة بالقدر الذي كنا نتصوره كما لاحظت أنها تشهد من داخلها تطورات هائلة تضع في الميزان قدرتها على وصف الواقع رغم تحكمها المتزايد فيه إضافة إلى ما بدا واضحا من عنف العقل وعقلية العنف التي تميز الغرب في تعاملها مع الإنسان والطبيعة .
أما في ميدان التناقض بين النظرية والممارسة فقد لاحظت نفس الفرق الهائل الذي اتضح لي عند كل أصحاب الحلول الجذرية والنهائية , فمن جهة التشدق بالحرية والعدالة والديمقراطية وقيم الحضارة الغربية , ومن جهة أخرى استعباد الأمم والشعوب إما مباشرة أو بطرق ملتوية مع ممارسة كل أنواع التعسف ولو بتغليفها بذكاء ضد قطاعات متعددة من المجتمع الغربي نفسه , وقس على نفس المنوال ما يخص سائر المشاكل الأخرى كالديمقراطية التي بدت لعبة أحزاب وقوى مصرفية وإعلامية رهيبة تسيطر على شعوبا مدجنة إن لم نقل مرتشية .
بطبيعة الحال استغرقت هذه الرحلة في عالم الشك سنوات طويلة وكانت رحلة مليئة بالحيرة , بالتناقضات , بالاستفسارات , بالحماس الذي سرعان ما كان ينطفئ  بخيبات الأمل المتتابعة وكنت مدفوعا إلى هذا البحث الشاق الذي لا يكل , بشعور مرهف بما أسماه الفلاسفة الغربيين ب''الألينة'' أو التغرب  و " كان الوعي المؤلم " CONSCIENCE MALHEUREUSE طابعنا المميز نحن شباب تلك الحقبة ( الستينات ) .
وقد ولد أكثرنا في وسط فقير وشعرنا مبكرا بانتمائنا إلى طبقة دنيا واكتشفنا ولم نبلغ المراهقة بعد أننا ننتمي إلى بلد متخلف . ووجهنا في بداية شبابنا باكتشاف ثلاث هو انتماءنا إلى حضارة عجفاء , ذابلة , مهزومة , متكبرة في آن واحد لكن بكبرياء دون رصيد , إلى أمة قال فيها أحد شعرائها أنها أمة ضحكت من جهلها ( من تمزقها , من انقساماتها, من إنجازاتها ) الأمم ... لذلك كان الرد على الأسئلة التي ما انفك العقل يبحث لها عن إجابة مقنعة في هذه العقيدة أو تلك المسألة حيوية ... مسألة رد اعتبار للطبقة المسحوقة التي نشأنا فيها , للبلد الذي نحبه , للحضارة التي كتب علينا أن ننتمي إليها , للأمة التي كنا نحمل انتمائنا إليها فوق جبيننا تارة كإكليل غار وطورا كإكليل شوك . وكنا ولا نزال نبحث عن أقصر السبل لمجتمع الرخاء والكرامة والحرية , واستعصى رد الاعتبار وضاعت ملامح الطريق أكثر من مرة . وكان للنقاشات الطويلة التي أمضيت فيها الكثير من الوقت مع المؤمنين من كل حدب وصوب فضل كبير لا لأنها كانت تأتي بالحقيقة التي كان العقل النهم يبحث عنها , وإنما لأنها مكنت من اكتشاف التشابه بين كل العقائديين نفسيا ومنهجيا . فقد ظهر أن إيمان الماركسي والإسلامي – وإن اختلفا في الشكل – واحدا في طبيعته الخفية , أي أنه نفس الإيمان المطلق بالتعبير عن " حقائق " مقدسة أو موضوعية لا يمكن النقاش فيها , ونفس الإيمان بأن الآخر على خطأ
 وضلالة , ونفس الرفض المطلق لإعادة النظر في دعائم تفكيره الخ .. وبالتالي اتضح أن الفرق لا يكمن بين المسلم أو الماركسي , أو المنتمي لهذا الفكر الميتافيزيقي السياسي أو ذاك بقدر ما يكمن بين العقائديين من جهة ورجال العلم أو رجال الفن من جهة أخرى .
إلا أن الفضل الأكبر في بلورة أفكار هذا الكتاب يعود إلى الأحداث التاريخية العظمى والمتسارعة التي كانت تفرض نفسها على عقولنا وحواسنا ولم أكن لحسن الحظ أنتمي إلى تلك العقول التي قال عنها قاليلي العظيم إنها تفضل أن تغير ما في سماء الطبيعة على أن تغير حرفا من كتب أرسطو أو التي تدعي عندما تكتشف خطأ قالينوس في وصفه لأعضاء الجسم أن هذه الأعضاء تغيرت من وقت قالينوس حتى لا تضطر إلى مراجعة الحقيقة المخيفة : إن قالينوس قابل للخطأ وإن عليها أن تفكر بنفسها . كان نقطة التحول قضية دخول القوات السوفياتية إلى تشيكوسلوفاكيا سنة 1968 لقمع شعب مسالم متفق على الشروع في اشتراكية ذو توجه إنساني ملتف حول زعيمه وممثله " دوبشاك " . وكان من الخطورة بمكان بالنسبة للاشتراكيين أمثالي أن تقمع هذه الثورة المسالمة باسم الاشتراكية وزاد من حدة المأساة أن يكتب طلبة براغ على الحيطان : " أفق يا لينين لقد جنوا " فلم ينهض من قبره وواصلوا جنونهم ولم يجد يومها'' يان بالاش'' الطالب المسالم ما يواجه به جحافل الدبابات الهمجية إلا احتجاج الأقوياء الضعفاء : سكب البترول على جسمه وإشعال النار فيه ودخل أيان بلاش تاريخ بلاده شهيدا للحرية . وكنت أسمع حجج الماركسيين في تبرير هذا الاعتداء السافر على شعب مسالم , فأغضب , وكنت أزداد قرفا وأنا أسمع مقولة الاشتراكية شيء وتجاوزات الاشتراكيين شيء آخر , والتشهير باستعباد شعب بأكمله هو نتيجة عداء بدائي للشيوعية والسوفياتية . ورفضت أن أقبل الحجتين وخرج الشعب التشكوسلوفاكي بعد واحد وعشرين سنة ليعبر هو الآخر عن رفض تاريخي أهم , وبدأ الشك يداهمني في الفروع و في الأصول . هنا لابد من التذكير أنني أفكر كطبيب والطبيب لا يتعامل مع المشاكل إلا بالتشخيص الصحيح ولو كان مؤلم , ولا يقبل من العلاج إلا ما اتضح نفعه تجريبيا . وكنت وأنا أواجه أشباه الفلاسفة والثوريين بحجتهم المترهلة الماركسية شيء وكيم إيل سونج شيء وشاوشكو شيء وستالين شيء وبريجنيف شيء وخوجة شيء الخ ... والعودة إلى ماركس الحقيقي هو الحل , فتخيل وصفة يجربها زيد فتقتل , فنقول غلطة زيد ويجربها عمر فتقتل , فنقول غلطة عمر ونبقى نجرب بغباء وإصرار دون أن يخطر ببالنا أن الوصفة نفسها بحاجة إلى المراجعة أو النقد وجاءت الأحداث الأخيرة في الاتحاد السوفياتي وبولونيا وألمانيا الشرقية والصين تؤكد على ما نعرفه بالحدس أن على النظرية أن تسلم بالواقع وأن تطأطئ له الرأس طال الزمان أو قصر . وكان للطب أيضا دوره في توجيه الرد في قضية التفاضل بين العقائد , فنحن لا نقبل مبدئيا الإقرار بفضل علاج على آخر إلا بمقارنة صارمة تعتمد قياس مؤشرات موضوعية . ولا نعتبر ما تصفه لنا شركات الأدوية من منافع إلا إشهارا يجب الشك فيه خاصة إذا كان مرفوقا بتجارب لأشهر الأطباء في أشهر المستشفيات لكنها تجارب لم تنشر في المجلات الطبية الراقية وإنما في كتيبات أنيقة تطبعها نفس الشركات, بعد إغداق أموال هامة على " علماءها " .
خرجت إذا في بداية السبعينات من الماركسية غير آسف عليها وهازا الكتفين وأنا أسمع من ينعتني بالمثالي المثقف البورجوازي الصغير , وكان عليه أن ينعتني بالمتمرد العلمي الصارم . ولا أكن واعيا أنذاك بأنني على موعد مع إشكالية ضخمة هي الإسلام , فقد كنا نعتقد في بداية السبعينات أنه موضوع أغاق وانتهى , وكان الجدل الوحيد قائما بين التقدميين والقوميين أو المتعلقين بشكل أو آخر بالفكر الماركسي وبين الليبراليين المتهكمين على موت الايدولوجيات . والحق أن علاقتي مع الدين كانت ولا تزال بسيطة وبالغة التعقيد في آن واحد . فقد رفضت دوما الانبتات وأصررت على أن لا أفكر إلا من داخل المنظومة العربية الإسلامية , وكنت لا أجد أدنى صعوبة لتجري في اللغة والتقاليد العربية وقبول الإسلام كثقافة وحضارة ومنفذ إلى العلم الروحاني , باحثا في الماركسية عن أداة علمية لتحليل اجتماعي – اقتصادي وسياسي صائب مع رفض تصورها الساذج لقضية الدين كمجرد أفيون شعب أو إلحادها لأنني كنت ولا أزال مؤمنا بوجود قوة غيبية أقف خاشعا أمام إعجازها وعبقريتها وأنا أدرس روائع البيولوجيا . ومن ثمة انشطار النفس إلى شطرين : توجه عقلاني حداثي علماني صارم وتعلق متين من تراث الأباء والأجداد . ولم أكن موفقا ساذجا ولا ملفقا خبيثا في هذا والفضل راجع من جديد للطب في بلورة هذا التوجيه لأن الطبيب لا يتنكر للتراث الطبي فهو متجذر فيه لكنه لا يحمله ما لا يطيق إذ هو مفتوح على تطور المعارف مدركا لما فيها من نقص , باحثا عن أقصى قدر ممكن من النجاعة , قابلا لمبدأ وضرورة التغيير المستمر . فلا محبة أبو قراط ولا الإعجاب بالرازي يسمرانه مكانه لتطبيق وصفاتهما ولا تجاوزه لهما ينسيه فضلهما عليه لذلك لم أجد يوما أدنى صعوبة في تجاوز النص كل نص لمتابعة النفس المسجونة داخله لان هذا ما نفعله طيلة تاريخنا الفكري في الطب بدون توقف أو حرج . فالطبيب خلافا للعقائدي ملزما بمتابعة المهمة لا بالإستكانة إلى نصوص جامدة . وكنت أفهم تلقائيا أن الثائر الأعظم جاء في قوم يقتلون بناتهم فحرم ذلك وفي قوم يتزوجون ما شاء من الناس , وحدد ذلك , وفي قوم يحرمون المرأة من كل إرث , فكانت ثورة الثائرين لما وهبها النصف , وفي قوم بنيت حياتهم على الرق فلطفه ما استطاع وكان ذلك أقصى ما كانت تسمح به الظروف . ولأن الظروف تغيرت أصبحنا لا نكتفي بهذا المقدار وغنما نلغي الرق ونطالب بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة . ولا أعجب من شيء قدر عجبي ممن يواجهونك بنصوص خلقت في زمان ومكان غير زماننا ومكاننا محتجين على الواقع المتغير بجملة سحرية من نوع صالح في كل زمان ومكان ومتجاهلين أن التمادي في هذا المنطق يعني إعادة الرق لأن النصوص لم تلغه وإنما قننته وربما استمد هذا التعجب من قناعة عميقة لا برهان عليها ولا دليل , ألا وهي أن الثائر الأعظم لو بعث اليوم حيا لمشى شوطا أبعد في تحرير الإنسان ولربما كان أول ما يفرض مثلا هذه المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة .
لم يخطر لي على بال إذا أن بوسع  الدين أن يعود يوما كتعبير عن تطلعات التحرر الإنساني , ففي بداية الستينات كل الإسلام السياسي مرادفا للحلف الإسلامي لملك فيصل الموجه ضد عبد الناصر ومناورات الأخوان المسلمين أي للرجعيين , لذلك فوجئت ككل المثقفين التقدميين طيلة السبعينات بإلتهاب جذوة الإسلام السياسي في الوقت الذي كان فيه بريق الماركسية ينطفئ شيئا فشيئا لا بفضل أعداء الاشتراكية وإنما بفضل دموية الرفيق بول بوت في كمبوديا , ودكتاتورية الرفيق كيم إيل سويخ في كوريا الشمالية , فملكية الرفيق تشاوشسكو في رومانيا نهيك عن غطرسة الرفيق بريجنيف وحرب الحدود بين الصين والفيتنام , وانطلاق الثورة العمالية في بولونيا بقيادة النقابيين ... الكاثوليك . كان أمرا غير متوقع وواجهه الجميع في ما أعرف بسيل من التهم والتعابير الإرهابية المبتذلة والمعروفة .
 تدخلت عقلية الطب من جديد, لأننا في مهنتنا لا نشتم الإعراض وإنما نتساءل عما تخفيه , لذلك تركت السب والشتم لأصحابه وحاولت أن أفهم الظاهرة , ولم يكن المرء بحاجة إلى كثير من الذكاء ليفهم أن راية الرفض مرت من يد إلى أخرى . فقد كنذا كلنا أمام بورجوازية عاقرة – عاهرة – منبتة تتكلم الفرانكو آراب أو الإنجلو آراب , دينها الدرهم والدينار . وكانت هذه البورجوازية المدنية أو العسكرية التي أفرزتها حركات الاستقلال وانتصاب الدولة الوطنية تأخذ بخناقها جميعا تارة باسم الدولة العصرية والحداثة وتارة باسم التجذر في الدين والهوية , وكان نصيبها من الاستقلال اللحم والشحم ونصيب القطاعات العريضة من الشعب العظم وما علق به من لعاب هذه البورجوازية .
ولان الخطاب الاشتراكي تهاوى , ولأن الطبعة لا تحب الفراغ فقد كان من الطبيعي أن تستنجد قطاعات عديدة من الشباب العربي بأول راية للثورة في تاريخنا : الإسلام .
إن أبسط قراءة لجذور الحركات الإسلامية في الوطن العربي في مصر تظهر أنه كلما كان الفقر مدقعا والظلم فائقا لكل الحدود , كلما كان الرفض تحت راية الإسلام عميقا جذريا منتشرا ولا ربما كان أحسن مثال على عمق الرفض وارتباطه بعمق الظلم مأساة مصطفى شكري زعيم حركة التفكير والهجرة الذي شنق في مصر سنة 1977 فقد قدمته كل وسائل الإعلام العالمية والعربية كإرهابي متعصب بل وكمجنون خطير يكفر كل المسلمين وينادي بالاعتصام بالكهوف فرارا من الكفار . ولم يخطر ببال هؤلاء القيمين على السلام والتقدم أن يتساءلوا بعقلية الطبيب عن سبب العنف عند مصطفى شكري وجماعته , ولربما اكتشفوا لو تساءلوا أنه كان ردة فعل بحجم عنف الفقر والقمع السياسي المسلط على شباب بلا أدنى مستقبل , ولم يكن الفقر وحده المحرك وإنما هذه الأنفة التي كان فرسان الحداثة يخدشونها دوما عندما جعلوا من تراثنا مستودعا لا منهلا .
لكل هذه الأسباب تعاطفت مع قوى الرفض الجديدة رغم تباعد المواقف النظرية رافضا أن أتوقف عند حرفية الحطاب وهوية المتكلمين , محاولا أن أنفذ قدر المستطاع إلى فحواه وروحه إلا أن عقلية التجريب الطبي لم تكن تسمح بالطوباوية , فقد كان الشك في قدرة هذا التيار الجديد على دفع المشروع التحرري قدما إلى الأمام عميقا , ملازما لا ينفع فيه دواء الأمل والتوهم , لذلك تابعت غرق الثورة الإسلامية في إيران في الدم والفظاعة بنوع من اليأس الحزين .
وتعمق الحوار في بداية الثمانينات بيني وبين نفسي حول أسباب تواتر الفشل وقد تعرض لهذه الإشكالية العالم الاجتماعي الفرنسي ادقار موران بتركيز واقتضاب قائلا : أن هناك في العالم قوى رهيبة تبحث عن التحرر وفي الأخير لا تفعل سوى ترسيخ عبوديتها .
وكان موضوعي في بداية السبعينات فهم أسباب هذا المصير المأساوي لقوى التحرر التي تتمخض دوما عن قوى استبدادية تكون في بعض الأحيان ألعن مما قاومتها . وبحثت لسنوات عن الرد بالعودة إلى النظرية – إلى الوصفة لأكتشف جذور الاستبداد فيها إذ قد علمني الطب أن أعود دوما للخلل الكامل داخل الخلية لفهم مرض الجسم بأكمله . وكانت رحلة طويلة في عالم الفكر العقائدي عدت منها بقناعة أن القضية أعقد مما تصورت لأن كل بذور التحرر وكل بذور الاستبدادية موجودة في آن واحد و الإشكالية النظرية جزء من المشكل .
و من ثمة انتقل السِِؤال إلى مستوى آخر  : ما الذي يجعل نزعة الاستبداد تتغلب على نزعة التحرر داخل كل عقيدة ؟ ووجدت الرد لا في نقاشات المثقفين وإنما في المعانات اليومية . في احتكاك في إطار علمي في ميدان الطب الجماعي بعمق الفقر والحاجة والخصاصة إذ يتمرد الناس خاصة الشباب على الفقر والظلم باسم هذه العقيدة أو تلك ويستنجدون براية التحرر تحمل هذا الاسم أو ذاك , ويأخذون السلطة في هذا البلد أو ذاك ليرتطموا من جهة بسلبيات الفكر الذي حملهم إلى السلطة ومن جهة أخرى بحاجز الفقر الموضوعي الناتج عن ضعف قوى الإنتاج , فتكون خيبة الأمل والمرارة والمطالبة بتحقيق الوعود , وأمام الاستحالة الموضوعية لتحقيق هذه الوعود , يتهيكل النظام الجديد كسابقه على قاعدة التوزيع الظالم للقرار أي للثورة وهكذا أضيف الفصل الأخير إلى مخطوطة تمحورت لسنوات حول النظرية وحدها . والسؤال هو إلى متى ستبقى قوى التحرر ترتطم ثورة بعد ثورة بالاستبداد الفكري أي السياسي أو السياسي أي الفكري وبالقصور التكنولوجي فتتحطم أحلام الحرية والرخاء , بماذا سنستنجد يوم يفرز الحزب الإسلامي المنتصر في هذا البلد أو ذاك فظاعته ممارسا الوصاية والإقصاء والقمع ومبرزا النومكلاتورا الإسلامية .
وحتى لا نغرق في اليأس وحتى لا نواجه المستقبل بنفسية المهزومين , أقول أنه علينا الاستنجاد بعقلية الطب . وقديما قال الطبيب الألماني الكبير فيرشوف " إنما السياسة طب لكن على مستوى شعب " .
والعقلية الطبية تأمر بأن نبقى نجرب الدواء بعد الدواء على شرط أن يكون تشخيصنا صحيحا .
لذلك أقول لنبدأ أولا بتشخيص مأزق التحرر , لنأتي بعدها جماعيا إلى مرحلة التطبيب .

                                                                 ***



الفصـــل الأول


الطــــــرح الآخــــــر



«  يا للناس من قوم فاتنين , إنهم دوما يداوون ويزيدون ويعقدون مرضاهم واختلال أنظمتهم متوهمين بأن عقارا سحريا ما ينصحهم أحدهم بتجربته سيشفيهم ولكن حالهم لا تتحسن أبدا , بل تنحدر من سيء إلى أسوأ – أليس فائدتهم كفائدة المسرحية فهم يجربون يدهم في التشريع متوهمين أنهم سيضعون عن طريق الاصلاحات نهاية لعدم استقامة الجنس البشري ورذالته غير عالمين أنهم فعلا وواقعا بأنهم يقطعون رؤوس هدرة Hydra »

أفــلاطــــــون




الصــــراعــــات النظــــريــــة

يقول التوسار أن " الصراعات النظرية هي صراعات سياسية داخل النظرية " , وهو محق في هذا إلا ما فاته توضيحه هو الرهان , والرهان كان وسيبقى المشروع التحرري بأشكاله وأنواعه وأسمائه المختلفة و والنظرية هي دوما القوة التي تعبر في الزمن ما ومكان ما بأسلوب ما عن تقييم لمرحلة من مراحل هذا المشروع وتعطيه دفعا جديدا في قالب هذا النظام السياسي أو ذاك .
والنظرية مرتبطة أوثق الارتباط بالطبع بما ينتج عنها من تطبيق على أرض الواقع , تأثر عليها وتتأثر بها سلبا وإيجابا مثلا قولبت النظرية الماركسية المشروع التحرري في أوروبا القرن التاسع عشر وتمخضت عنها أنظمة حكمت نصف الكرة الأرضية وهاهي الآن تنهار الواحدة بعد الأخرى أو تراجع أبجديتها , فمن المجر التي تنزع النجم الأحمر من برلمانها إلى حائط برلين الذي أسقطته الجماهير الشعبية الذي بنى باسمها لحمايتها إلى " ملك " مجنون شيوعي في رومانيا ... الخ .
كلها تجارب تاريخية توجه إلى النظرية التي ولدتها أكبر التحديات , شأنها في هذا شأن الاكتشافات المخبرية في هذا الميدان التي تضع على المحك نظريات علمية خالها الفكر صلبة قارة أزلية .
إن ما يحدث اليوم في أرمينيا وبولونيا والمجر وألمانيا الشرقية نهيك عن الاتحاد السوفياتي لا يفعل إلا تأكيد توقعات العديد من الأعمال التقدمية للمشروع التحرري في ثوبه الماركسي والسابقة بعقود للفترة الحالية أكانت أعمال Hanna  Arendt وSolynestyne و Marcuse  و Medvedev ... الخ .
فقد كانت كل بوادر فشل المشروع موجودة منذ عشرات السنين بعد أن دخلت النظرية في حيز التطبيق , لذلك كان من الطبيعي أن تطلق الثقافة صفارة الإنذار كما هو شأنها دوما في مثل هذه الحالات , إلا أن من طبيعة التجربة السياسية أن لا تصغي على مثل هذه الصفارات السابقة بل أن تحاول إخمادها لأنها مدفوعة بديناميكيتها الخاصة التي لا تتوقف كالحجرة التي تتدحرج من أعالي الجبال أي إلا عندما تصل قاع تجربة اسمها الفشل الكامل والتكذيب القاطع لآمال المشروع التحرري . إن ما كانت النظرية التقييمية تشير إليه وما أكدته الأحداث الأخيرة بصفة قطعية هو كالآتي :
q       فشل قدرة التوقع داخل المشروع التحرري في ثوبه الماركسي حيث ظهرت الثورة الشيوعية أي لم تكن منتظرة ولم تظهر أي كانت " القوى الموضوعية المزعومة " تجعل ظهورها أمرا إلزاميا .
q       فشل هذا المشروع في جعل السلطة أداة بيد الشعب لصالح الشعب بل وعودتها على طغيان فاق كل الحدود التي عرفتها التجارب التاريخية الأخرى ومن ثمة سحق الإنسان حتى العظم هذا الإنسان التي بعثت النظرية أساسا للتبشير بخلاصه .
q       فشل هذا المشروع في تحرير الإنسان من عبوديته الخاصة المادية وهو فشل نسبي بالطبع , إذ هو يقارن ما حققه المشروع التحرري في ثوبه الليبرالي – الغربي والذي صوت له سكان المناطق الشيوعية بأقدامهم هربا من الظلم والفاقة إلى واحات العالم " الرأسمالي الإمبريالي " .
يبقى أن نقيم نحن هذا الفشل والمستوى الأول الذي لا يهمنا لتفاهته , وهو الشماتة النابعة من المنافسة العقائدية أكانت الليبرالية الغربية , أو الحرة الإسلامية , والتبجح بنجاح لازال ينتظر تأكيدا أكبر .
والمستوى الثاني الذي يهمنا بالأساس هو مستوى المشروع التحرري نفسه لأنه هو الذي كبا من جديد في ثوبه الماركسي مثلما كبا العديد من المرات في هذا الثوب أو ذاك .. أو بما أن تحرر الإنسان هو الرهان , وأن الإنسانية لا تفعل عبر تاريخها المأساوي إلا تجريب هذا الحل أو ذاك لتحقيق هذا التحرر , فإننا مطالبون بتجاوز خيبة الأمل ومطالبون بفحص هذه التجربة الجديدة علنا نتعلم منها بعض المعطيات فالتجارب الفاشلة نفسها غنية بالعظات , وقد تعودنا على فهم أعمق للصعوبات التي يواجهها المشروع التحرري ومن ثمة على نضج أكثر من التعامل مع الصعوبات .
السؤال : لماذا فشل الإسلامي ( نسبيا أو كليا حسب الزمان والمكان ) وفي نشر الإسلام ؟ ولماذا أخفقت المسيحية في تطبيق تعاليم المسيحية ؟ وكيف وصلت الماركسية إلى طورها الحالي من التشريع لنظام عسكري يحل نقابات العمال ويطلق الرصاص على تظاهراتهم ؟ تبعه انهيار اقتصادي وقد يتمخض عن نظام ليبرالي ... ؟
كيف تمخض الإسلام الذي ينادي بالحرية والمساواة والعدالة والذي وجد أصلا لينشر هذه القيم عن أنظمة متعددة عبر التاريخ , حكمت باسمه ومارست العبودية والظلم وكانت الحجة والذريعة للعقول التي فرضت التحجر الفكري ؟ لماذا يسهل عادة في إطار هذه الأنظمة قمع الساخطين على ظلم أمير المؤمنين باسم التعاليم الإسلامية المثالية وباعتبار التمرد على ظلمه تمردا على التعاليم التي نصّب نفسه حاميا لها وناطقا باسمها ؟
كيف ولماذا تنقل العقيدة من طور إيجابي فعال إلى دور سلبي يقاوم الحركة ؟ كيف ولماذا تصبح المغامرة الفكرية والسياسية التي فتحت آفاقا للعلم والعمل أهم عقبة تقف في وجه تطور هاتين الحاجيتين ؟ باختصار كيف ولماذا تصبح أداة التحرر أداة استبداد ويكون ردهم عادة على هاته التساؤلات أنه لا يجوز الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام أو بالحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي أو الكمبودي على الماركسية . وهذا ليس برد وإنما استعباد له , لذلك لن نتوقف عند هذا الحد .
                                                                       *



المبـــــتــــذلات

إنها إشكاليات المستوي الأول أي إشكاليات التفاضل أو القدرة على تحقيق المشروع التحرري أحسن من كل المنافسين , مع ما ينجر عن هذا من مشاكل ثانوية هامشية لا بد من التعرض إليها بعجلة للإعراض عنها نهائيا . وقد وصفها ابن المقفع فقال :
" وأردت الدين فلما وقع ذلك في نفسي اشتبه علي أمر الدين , أما كتب الطب فلم أجد فيها لشيء من الأديان ذكرا يدلني على أهداها وأصوبها وأما الملل فكثيرة ومختلفة ليس منها شيء إلا وهو على ثلاثة أصناف : قوم ورثوا دينهم عن آبائهم وآخرون أكرهوا عليه حتى ولجوا فيه وآخرون يبتغون به الدنيا وكلهم يزعم أنه على صواب وهدى وأن من خالفه على خطأ وضلالة . والاختلاف بينهم كثير في أمر الخالق والخلق ومبدأ الأمر ومنتهاه وما سوى ذلك , وكل زار وله عدو وعليه كاتب فرأيت أن أنظر في علم كل ملة , وأناظرهم وأنظر فيما يصفون لعلي أعرف , لذلك الحق من الباطل فأختاره وألزمه على ثقة ويقين غير مصدق بما لا أعرف ولأتابع ما لا يبلغه عقلي . ففعلت ذلك وسألت ونظرت فلم أجد أحدا من الأوائل يزيد عن مدح دينه وذم ما يخالفه من الأديان فاستبان لي أنهم بالهوى يستجيبون ولا يتكلمون بالعدل ولم أجد عند أحد منهم صفة تكون عدلا ويعرفها ذو العقل ويرضى بها . فلما رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحد منهم سبيلا ... " ولم تتطور مفاهيم وعادات العقائديين من عهد الكاتب الفذ إذ مازالت ظاهرة التفاضل أهم ظاهرة تميز تفكيرهم .
يقول عباس محمود العقاد في " مدح دينه وذم ما يخلفه من الأديان " : " إن شمول العقيدة ( الإسلامية ) في ظواهرها الفردية وظواهرها الاجتماعية هي المزية الخاصة التي توحي إلى الإنسان أنه كل شامل فيستريح من خصام العقائد التي تشطر السرير إلى شطرين ثم تعبأ بالجمع بين الشطرين على وفاق . وهذه العقيدة الشاملة هي التي أفردت الإسلام بمزية لم تعهد في دين آخر من الأديان الكتابية فإن تاريخ التحول إلى هذه الأديان لم يسجل لنا قط تحولا إليها من دين كتابي آخر بمحض الرضا والاقتناع , ولم يحدث قط في أمة من الأمم ذات الحضارة العريقة أنها تركت عقيدتها لتتحول إلى دين كتابي غير الإسلام . وإنما تفرد الإسلام بهاته المزية دون سائر العقائد الكتابية ورغبهم جميعا فيه ذلك الشمول الذي يجمع النفس والضمير ويعم بين الناس على تعداد الأقوام والأوطان ويحقق المقصد الأكبر من العقيدة الدينية فيما امتازت به من عقائد الشرع وعقائد الأخلاق وآداب الاجتماع ".
وللمفكر الماركسي ''لوفافر'' رأي مخالف وشبيه في نفس الوقت في موضوع المزية التي لم تعهد في " دين " آخر غير الماركسية والتي تفردت بها الماركسية دون سائر العقائد يقول :
" الماركسية حركية تفكير شامل تجمع وتوحد مختلف الظواهر لا ولن تتوقف في تقدمها وتطورها , وهي معرفة علمية للعالم تتحرك دائما وأبدا نحو مزيد من التعمق الذاتي إذ لم ينته تطورها بعد وهي توالي كذلك تقدمها المطرد إلى الأمام كسائر العلوم الأخرى بدون أن تهدم أسسها . وقد استطاع توحيد مظهرين مختلفين من مظاهر التفكير البشري أي العلم والفلسفة , وهي تتميز بانغماسها في الواقع الموضوعي الذي تكشفه وتترجم له بدلا من التباعد عنه أو استخراج جزء منعزل عنه وقد حوت بعد أن أحدثت فيها تغييرات جذرية سائر الفلسفات المجزئة والمفككة " .
ولا فائدة في الإكثار فلكل عقيدة كتّاب نهجوا على هذا المنوال وجبروا كميات هائلة من الورق في هذا المعنى ومن الأجدى التوقف عند المواقف التي يثيرها هذا الادعاء حتى نتفادى الوقوع فيها وهي على ثلاثة أصناف :
أولا : يشكل الموقف العقائدي المتعنت الذي وصفه ابن المقفع أكثر المواقف انتشارا , إذ ترث أغلبية الناس الادعاء العقائدي بالأفضلية والأزلية وتكتفي بقناعة الآباء والأجداد وبقناعتهما كحجة دامغة تثبت حقها الكلي والمشروعي في امتلاك كل الحقيقة بلا شريك أو منازع , وتحارب بعنف أعمى المخالفين في الملة والمتمسكين بالمنطق نفسه . وقد يعتنق بعض الناس الادعاء العقائدي عن رضا ووعي , ولكن تصرفاتهم هي نفس تصرفات الورثة إذ يستسلمون للعقيدة عقلا وروحا ولا يسلمون بأبسط مقومات التفكير النقدي ويرتبط هذا الموقف بالتزامات سياسية معينة نسميها بالمحافظة ثانيا : يشكل الموقف التوفيقي ثاني المواقف وقد علق عليه أصحاب النوايا الطيبة آمالا واسعة إذ يخلصهم من الحزازات والصراعات التي يدركون عمقها فتراهم ينادون بإمكانية الجمع بين عقيدتين
 ( أو أكثر ) بمزايا التوفيق بينهما والأخذ بأحسن ما في كل واحدة منها بغض النظر عن تباعدهما الشكلي . وقد عبر غاندي عن هذه النظرة في كلمته الشهيرة " إنما الأديان لغات ناقصة يستعملها أناس ناقصون للتعبير عن حقيقة كاملة " وطبقها في ترتيله للقرآن والإنجيل وكتب الهندوس المقدسة في نفس الصلاة .
ثالثا : تشكل بعض المدارس الفلسفية المثالية ثالث هذه المواقف وآخر ملجأ للفكر المتحرر نسبيا , إذ يواجه الفيلسوف بمقتضاه الادعاء العقائدي بتحفظ قلما يثبت عليه فلا يلبث أن يستبدل قناعة بأخرى وتستمر المهاترة التفاضلية على صعيد آخر . وقد أسهمت الأدبيات العقائدية على مر العصور في حصر الكلام حول هذه المواضيع فسخر أدب الإثبات قدرات المتكلم لخدمة منطلقات وأهداف الزعم العقائدي , وأدى هذه الأخير دوره بصدق نية أو لغرض في نفسه . بينما دار أدب الشرح في حلقة مفرغة من التحاليل والتنقيب عن الدرر الثمينة الكامنة في تعريج الجمل الغامضة ومتاهات الكلمات والاصطلاحات التي تتحمل بسهولة عجيبة شتى التأويلات , ولا يعدو هذا الشرح أن يكون في غالب الوقت ترديدا تتفاوت فيه جودة التمحيص وعبقرية التبرير تفاوتا كبيرا حسب قيمة الشارح ومدى إخلاصه للنصوص أو استعماله لها لدفع بعض أفكاره وسربلتها برداء العقيدة , بينما ألهب الأدب النضالي صدور العامة بالحماس اللازم لسوغ العالم والإنسان وفق المقاييس العقائدية وتجاوز الصعوبات الهائلة التي يثيرها الواقع . ولا تزال هذه الأدبيات تستنفذ كثيرا من الطاقات .
ويبقى النقاش يدور إلى مالا نهاية في حلقة مفرغة .
يقول ماكسيم رودنسون " أن هناك ماركسيات كثيرة بالعشرات والمئات , ولقد قال ماركس أشياء كثيرة ومن اليسر أن نجد في تراثه ما نبرر به أية فكرة . إن هذا التراث كالكتاب المقدّس ( أسفار التوراة والأناجيل وملحقاتها ) حتى الشيطان يستطيع أن يجد فيها ما يؤيد ضلالته " .ويقول محسن الميلي في نفس السياق في الإسلام :
" ولا نعجب من إنسان يدرس القرآن ويقف عند الآيات المتشابهات أن يظهر له أن كل القرآن متشابه , أو يقف عند الآيات التي يدل ظاهرها على الجبر أن يقول أن الإنسان مجبر وليس مخيرا , لا نعجب مما لا يرى من التراث الإسلامي إلا الصفحات المشرقة أن يصوره على أنه تاريخ " ملائكي " , كما لا نعجب ممن لا يرى في هذا التراث إلا الصراعات الدموية على السلطة أن يقول بأن التراث الإسلامي يمثل أحلك عصور الظلام , لا نعجب أن يأتي تأويل
" قومي " للإسلام يتعصب للعروبة ويجعل الإسلام ظاهرة من ظواهر الإبداع العربي متهما كل من ليس بعربي بأنه عنصر طارئ ودخيل على الأمة لا نعجب أن يأتي تأويل " رأس مالي " للإسلام لمجرد سماح الإسلام بالملكية الفردية والتجارة الخاصة , كما لا نعجب أن يأتي تأويل " شيوعي " للإسلام ينطلق من تأويل لبعض النصوص والأحداث " .
المشكلة أن الميلي ( مثل رودنسون ) لا يفعل سوى إضافة قراءة أخرى عندما يطالبنا بالخروج من " هذه الأغاليط والمغالطات " بتجاوز" النظرة  التجزيئية التي لا تقف على انسجام الموضوع وتكامله " ونحاول عبثا تجاوز النظرة التجزيئية لنكتشف بسرعة أننا لم نفعل سوى التمادي في التجزئة وهكذا نبقى ندور في نفس الحلقة المفرغة : البحث عن النظرية المثالية التي ستتمخض حتما إن طبقت كما ينبغي عن الممارسة المثالية .
 وحتى لا نكرر أنفسنا , حتى لا نعيد أنفسنا إلى ما لا نهاية حتى لا نتراكم كما يقول أدونيس يجب أن نتجاوز التجاوز , وأن نطرح أسئلة أخرى وعلى مستوى آخر .



الإشكـــاليــات الــدسـمـــة

- كيف يمكن تفسير التناقضات الهائلة والفرق الشاسع بين ما يوجد في الكتب وما يجري في الواقع , كيف متى ولماذا وقع الانفصام ؟
- لماذا هذا التقديس الشديد للنظرية ورفض المساس بها وتطويرها وحتى إعادة صياغتها , وما هي درجة الصحة في ادعاء العقائديين بأنها حجة على كل شيء ولا شيء حجة عليها ؟
- كيف يمكن العقيدة أن تنظر للتحرر وتغلف ممارسة الاستبداد ؟
- لماذا هذا الرفض المطلق عند العقائديين باعتبار التجربة التاريخية وكلها تجربة استبداد ؟
- كيف ولماذا يختار الإنسان مواقفه العقائدية ولماذا يثبت عليها وأي وظيفة فكرية اجتماعية يؤديها الخيار والثبات ؟
- ماذا لو كانت للعقائد ازدواجية الطبع والخصائص , أي أنها في نفس الوقت إيجابية وسلبية ؟
- هل تتطور سلبياتها عبر التاريخ فتطغى على إيجابياتها , أي هل يجوز تشبيهها بكائن حي يولد فيشب يافعا ثم شابا ليصيبه الهرم يوما فالموت . أليس النشوء فالتطور فالهرم فالموت قانونا عاما في الكون تخضع له كل أجزائه , أكانت في عالم الجماد أم من عالم الحياة , أترى الكائنات الفكرية تخضع هي الأخرى لنفس القانون ؟
- هل  نعتقدها قارة تتحدى الزمن ( في حين أنه لا شيء يتحدى الزمن ) كما نعتقد أن الجبل لا يتحرك لأننا لا نملك الوقت الكافي لملاحظة تحركه نظرا للتفاوت بين مقاييس زمننا وزمن تحرك الجبل ؟ عن كانت هذه النظرة الخلدونية صحيحة فكيف تولد العقائد , بماذا تحيا وبماذا تموت , وهل جذور الموت كامنة في أعماقها شانها في هذا شأن الكائن الحي الذي يحمل أوامر موته في داخل التركيبات الكيمياوية التي تحمل أوامر الحياة نفسها ؟
هل العقائد إذا ردود مؤقتة وإن طال ترحالها عبر الزمان لكن لأي حاجة قارة ؟ هل هناك حاجة في الإنسان اسمها الحاجة العقائدية تتالى العقائد لإشباعها مثلما تتالى مدارس الفنية والعلمية لإشباع حاجته إلى الفن وحاجته إلى المعرفة .
هذا الكتاب محاولة لإعادة طرح الموضوع ومحاولة لإيجاد مخرج من مأزق نظري لا زالت ترتباته على الصعيد السياسي عاملا من عوامل تخلفنا .


الفــــــرضـــيـــات


نعرف كلنا ظاهرة تراشق العقائديين بالسباب ولا نكلف أنفسنا عناء تفسير الظاهرة والغوص في أعماقها إما لأننا نعتقد في إطار تشبعنا بالمبتذلات التي وصفها ابن المقفع إن علينا الانتصار لأحد الخصمين , أو لأننا كليهما باسم" التسامح" في نفس الكفة طالبين من الله أن يهدي كل الناس إلى سواء سبيل التآخي والتفاهم إلى آخر المعزوفة . لنضع الحكم المعياري جانبا ولنحاول الإصغاء السباب لنفهمه وتفسيره قبل المسارعة إلى دخول حلبة الصراع أو الانسحاب منها بفضل حبنا العميق للتسامح .
ترى ما الذي يقصده الطالب الإسلامي عندما يصف زميله الطالب الشيوعي بالإلحاد والعمالة لنظام قتل عشرين مليون فلاح , وما الذي يعنيه هذا الطالب الشيوعي عندما يكيل الصاع صاعين لزميله الإسلامي فيصفه بالظلام الرجعي المتشبث بممارسات قروسطية كقطع الأيدي ورجم الناس وتبرير الظلم الطبقي وتفاوت نصيب الناس من الدنيا ؟ فهل الماركسي حقا ما يصف الإسلام وهل الإسلام فعلا ما يشجبه الماركسي ؟ طبعا لا , ولكن الأمر لا يتضح لا لهذا ولا لذاك لأنهم يجهلان أن " الإسلام " أو " الماركسية " كائن معقد وليس بالبساطة التي يتصورانها فالعقيدة أيا كان اسمها ومضمونها هي شيئان :
1- المشروع التحرري النظري : ويوجد هذا المشروع في الكتب والأعمال والنظرية المختلفة التي ترتكز عليها العقيدة وقلما يمكن مؤاخذة هذه الكتابات لأنها تتوثب طموحا لتحرير الإنسان من ربقة الاستغلال والاضطهاد والقمع , وهذا ما سيمكن في ما بعد من تفادي الإشكالية برفض الاحتجاج على العقيدة والممارسة باسم العقيدة النظرية .
2- الممارسة وهي كما علمنا التاريخ دوما ممارسة الاستبداد تنفي في الواقع وتكذب وتسفه المشروع التحرري , بل وتستعمله كغطاء لتركيز الاستغلال وتعميقه . والآن لنعد إلى خصام طالبينا .
من البديل أن كليهما مقتنع بأنه على حق وصواب وأن الآخر على خطأ وضلالة , وهما على أهبة الاستعداد عندما تتوفر الفرصة للفتك بالعدو العقائدي ممثل الشر وعدو الإنسانية بمنتهى راحة الضمير , فمن البديهي أيضا أن كليهما وقفا عند نصف الآية .
 لنعد طرح سؤالنا بكيفية مغايرة من أين يستمد الإسلام أو الشيوعي قناعته بأنه ناطق باسم الحق والهدى ؟ والرد بديهي : من مشروعه التحرري ونصوصه التي لا غبار فيه , والآن على ماذا يستند يا ترى لهاجمة الخصم العقائدي ؟ والرد كذلك بديهي : على ممارسة الاستبداد في تاريخ هذا الخصم . وهكذا يسع الإسلام أن يتغنى بالمبادئ النظرية السامية للإسلام وأن يقارنها بالممارسات الاستبدادية للستالينية أو لتجربة الخمير الحمر في الوقت الذي سترى الماركسي يسقط نبل المشروع التحرري الإسلامي وتجربة الاستبداد الماركسي ليتغنى بدوره بالكتابات المقدسة , ويشجب إسلام أئمة اليمن وسائر ممارسات الاستبداد التي عرفتها البلدان الإسلامية على مر العصور .
فلنتجاوز عملية الإسقاط والتعتيم والخلط التي تحكم خصام العقائديين لنقول :
إن كل عقيدة هي بالضرورة هي مشروع تحرري وممارسة لهذا المشروع تمخضت تاريخيا عن تجارب استبدادية وبالتالي , فإن علينا أن نفصل دوما بين المشروع النظري وهو ما نعنيه عادة بالعقيدة , وشكلها المتحجر الذي سيصبح قناعا يتغطى به الاستبداد ولنسمي هذا الشكل : المذهب .
نأتي إلى الفرضيات التي يمكن أن تعيننا على فهم المعضلة .

-هدف كل حضارة (1) تحرير الإنسان من الحاجة المادية , من الجهل ومن النظام , ولكل حضارة تكنولوجيا معينة وإيديولوجيا مرتبطة بها أوثق الارتباط , وبالتالي فإن العقيدة أو الإيديولوجيا هي الجزء النظري للمشروع التحرري في حين تشكل التكنولوجيا الجزء العملي أو المادي الملموس له .
-قضية العقيدة الأولى ليست الحقيقة وإنما السلطة ( السلطة الفكرية التي تسمح بترتيب الكون , السلطة السياسية التي تسمح بالتحكم في العالم الإنسان بالمضي قدما في المشروع التحرري أو إيقافه ) .
وتحاول كل عقيدة ترجمة الحاجيات بعقليتها ووسائلها الخاصة , فهي تلعب إذن دورا هاما في المشروع التحرري  عندما يصبح التعبير المقدس عن هذا المشروع وجزءا من استراتيجيته . ولنركز من جديد على أن تحرر الإنسان هو الهدف أو اللب , أما ما يحاط حول هذا اللب من زخرف قدسي ( كاتصال العقيدة بمصدر غيبي أو علاقته بالعلم في مفهومه المبتذل ) فأمر ثانوي أو هو لا يستمد أهميته إلا في قيامه بوظيفة شحن المستعبدين بالثقة والأمل مثلا في تحقيق جزء أو كل المشروع التحرري نظرا للارتباط بقوى خارقة يفترض منها أنها تؤمن الانتصار .
والأمثلة على هذا متعددة وتزخر بها كتب التاريخ , فوراء قيام كل عقيدة أكانت غيبية أو متعلمنة أي أكانت من نتاج الحضارة الثانية ( الزراعية ) أو الثالثة ( الصناعية ) ثورة اجتماعية سياسية حادّة أبطالها من سماهم طه حسين بالمعذبين في الأرض . فما كان لليهودية أن تظهر لولا أنين وتمرد عبيد فرعون , وما كان للمسيحية أن ترى النور لولا انتظار الناس لمنقذ يخلصهم من جور روما ويعدهم بالسلام في الأرض والسماء , وما كان للإسلام أو الماركسية أن يلعبا أي دور لولا دوام وتواتر الاستبداد . فالعقائد مشاريع تحررية سياسية اجتماعية تنطق بلهجات مختلفة عبر الزمان والمكان ولكنها تتكلم أساسا لغة واحدة .  يقول شارل أندري جوليان في كتابه " تاريخ إفريقيا الشمالية " عن ظروف ظهور المسيحية في أرض المغرب في القرن الثاني : " كان على الملاكين الكبار في غياب أسواق كافية استغلال عبيدهم بشكل مجحف واستغلال المراعي وتقسيمها وبيعها للمستعمرين ( الرومان ) وكانت أرستقراطية الأرضية كسولة مبذرة , تمارس الرباء , مما أدى إلى انهيار العملية " ... وعن رأي الدولة التي تدافع عن مصالح هذه الطبقة في الديانة الجديدة يقول : " كانت الدولة ( الرومانية ) ترفض التغاضي عن شيعة هي في نفس الوقت ذات توجه عالمي ومضادة للعسكرية الرومانية والفوضوية ( أي ثورية ... ) ويقول في موضع آخر من كتابه : " كان موقفها تجاه المسيحية هو موقف النظم المعاصرة تجاه الحركات الثورية " . ولا شك أن هذه الموقف هو من الثوابت التاريخية , فقد مثّل نفس السيناريو المرار العديدة على ساحة التاريخ ... فنجد من جهة نظم قمعية ومن جهة أخرى حركات ثورية تتخذ في بعض الحالات طابعا منظما هائلا يجعل منها عقيدة المقموعين والمسحوقين . لا غرابة أن نرى عبيد مكّة وفقرائها يدخلون في دين الله أفواجا نرى المنبوذين في الهند يتعلقون بأهداب الديانة الجديدة لأنها تعدهم بالحرية .
- العقيدة هي أساس الشكل المقدس للسياسية والصراعات العقائدية أكانت بين العقائد أو داخل نفس العقيدة هي بالأول صراعات سياسية تغلف نظريا .
- بقاء العقيدة مرتبط بتحقيقها للهدف الأوحد الذي بعثت من أجله ألا وهو تحرير الإنسان وبالتالي فإن كل عقيدة تفشل في تحقيق هذا التحرر مؤهلة للانقراض طال الزمان أو قصر مهما كانت ضراوة المدافعين عنها والمتشبثين بها .


 
(1)     الحضارة هي جملة الوسائل التكنوإديولوجية المستعملة في التعامل مع الطبيعة والإنسان وقد عرف العالم ثلاث حضارات الأولى والبدائية الثانية أو الزراعية والثالثة أو الصناعية وهو بصدد الانتقال في البلدان المتقدمة إلى الحضارة الرابعة نظرا للتطور المدهش للتكنولوجيا المعاصرة ( أنظر كتابنا دع وطني يستيقظ )





-  كل عقيدة معرضة عاجلا أم آجلا إلى التحجر في قالب ما يمكن تسميته بالمذهب , والتحجر هذا رغم طول الزمان نذير بأفولها , وخلافا لما يدعيه العقائديون فالتحجر ليس شكلا دخيلا عليها نتيجة " سوء الفهم للأصول" وإنما هو شكلها الطبيعي عندما يتضح استعصاء المشروع التحرري على التحقيق , فتنقلب نظرية التحرر إلى قناع تختفي وراءه ممارسة الاستبداد .
- فشل مشاريع التحرر ( مختلف العقائد التي نعرفها ) نتيجة تضافر عاملين أحدهما خارجي والآخر داخلي . أما العامل الخارجي فيتمثل لقصور تكنولوجيا الحضارة عن تلبية حاجيات الإنسان الرئيسية المادية , ولا يبقى للإيديولوجيا غلا تنظير هذا العجز أو محاولة مداواته بصفة سحرية كالتطبيل للزهد أو للعالم الآخر الخ ... أما العامل الداخلي فيكمن في آليات التفكير العقائدي نفسه كأهمية الإيمان وتغييب العقل والحرية أي أدوات التقييم مما يسمح للأقلية المحظوظة بالاستيلاء بسهولة على السلاح الذي شهر في وجههم ... هذه إذا بعض الفرضيات الهامة التي يمكن أن تعطي للنقاش الدائر حاليا في عالمنا العربي بعدا آخرا .

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire