« O mon dieu accroît mes connaissances ! »114 Tâ-Hâ

« O mon dieu accroît mes connaissances ! »114 Tâ-Hâ
سألت قلبـي كيـف أمسـيت بعــد الفـراق؟ .. فـأجابنـي .. وهـل للـرماد إحـساس بعـد الإحتـراق ؟؟

samedi 30 novembre 2013

الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة





 


الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة

اضع بين ايديكم نص الوثيقة القادرية مع تعليقات للمرحوم امين نايف ذياب مجدد الفكر الاعتزالي في العصر الحديث….
ونحن نرى ضرورة تعرف ابناء امتنا على هذه الوثيقة
ودورها الخطير في وصول امتنا الى ما وصلت اليه من فرقة وهوان وذل..
وهذه الوثيقة نرى انها تجيب عن السؤال الملح والمتكرر لماذا لم ننهض للان كأمة رغم كل المحاولات؟؟؟؟
واليكم الموضوع
(ارسل إليكم نص الوثيقة القادرية ،
لقرائتها بتمعن ،
ومعرفة دور هذه الوثيقة في هبوط الفكر الإسلامي ـ بعد أنْ كان يتربع على صدارة العالم
في انتاج المعرفة ـ
ولتدرك أخي الكريم انَّ الوثيقة القادرية توجهت ضد فكر المعتزلة بالدرجة الأولى ـ
ومنذ تلك الوثيقة والأمة الإسلامية تنحدر عن المكانة اللائقة بـها ،
إلى أنْ أمكن هدم الدولة الإسلامية في 3 آذار 1924م
 
........................................................




--------------------------------------------







الوثيقة القادرية
ما هي الوثيقة القادرية ؟ ولماذا توثيقها ؟

الوثيقة القادرية أو الاعتقاد القادري :
هي وثيقة أصدرها الخليفة العباسي القادر بالله سنة 408هـ ،
حددتْ المعتقدات التي يجب على المسلمين اعتقادها ،
وتمنع معتقدات أخرى تحت طائلة العقوبة والنكال ، وقد منعت هذه الوثيقة الاجتهاد ؛
فكانت السبب في تأخر المسلمين ؛
وهو تأخر لا زال إلى اليوم ،
والخليفة العباسي القادر بالله
مُصَدّر الوثيقة يكنى بأبي العباس ،
واسمه أحمد بن الأمير اسحق ،
فأبوه لم يكن خليفة ،
لكنَّ جده المقتدر بالله ؛
واسمه جعفر ؛
ولقبه أبو الفضل ؛
تولى الخلافة سنة 295 – 320 هـ ،
خلع مرتين ثم قتل في الحرب ،
والمقتدر هو ابن أحمد أبو العباس الخليفة الملقب بالمعتضد ؛
تولاها من 279-289هـ ،
وهذا أي المعتضد هو ابن الموفق ؛
الذي لم يكن من الخلفاء ،
والموفق هو ابن الخليفة المشهور المتوكل بن المعتصم .
لقد آلت الخلافة إلى القادر صاحب الاعتقاد بعد القبض على الخليفة الطائع ،
يوم السبت التاسع عشر من شهر شعبان سنة 381هـ ،
يصفه ابن كثير في بدايته ونـهايته في التاريخ ،
بأنه من خيار الخلفاء ،
وسادات العلماء في ذلك الزمان ،
وكان كثير الصدقة حسن الاعتقاد ،
وصنف قصيدة فيها فضائل الصحابة وغير ذلك ، فكانت تقرأ في حلق أصحاب الحديث ،
وتجتمع الناس لسماعها مدة خلافته ،
توفي القادر سنة 422هـ .
وابن كثير إذ يحكم عليه بحسن الاعتقاد إنما ينطلق من رؤيته الأشعرية المخالطة بمقالات من رؤية أهل الحديث ،
.........................
والأشعرية وحلفاؤهم أهل الحديث أعملوا القتل في رقاب المسلمين دون وجه حق ،
........................
فسادت في الأمة بفضل هذا الحلف غير المقدس :
ـ السلطان العباسي ، والأشعرية وأهل الحديث ،
والأعاجم في اللسان السلاجقة ـ
التقليد والأسطورة والجبر ، فتهيأت الأجواء للكارثة التي لا زالت الأمة الإسلامية تعاني من شدة وطأتـها حتى هذه اللحظة .
قراءة الوثيقة القادرية على مرات
تكررتْ قراءة الوثيقة على العلماء والفقهاء
وهذه هي :
القراءة الأولى

في أخبار سنة 408هـ دَوَّنَ أبن كثير نقلاً عن المنتظم لابن الجوزي :
أخبرنا سعد الله بن علي البزار أنبأ أبو بكر الطريثيثي أنبأ هبة الله بن الحسن الطبري قال :
وفي سنة ثمان وأربعمائة استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتـزلة ،
فأظهروا الرجوع وتبرؤوا من الاعتـزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام ،
وأُخذت خطوطهم بذلك ،
وأنـهم متى خالفوا أُحل بـهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالـهم ،
وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك ؛
واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها ،
في قتل المعتـزلة ! والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة ، وَصَلَبَهُمْ وحبسهم ونفاهم ،
وأمر بلعنهم على المنابر ، وأبعد جميع طوائف أهل البدع ، ونفاهم عن ديارهم وصار ذلك سنة في الإسلام
---------------------------------------------


------------------------------------------------


ما يلاحظه القارئ للخبر :
إنَّ اسم المعتـزلة هو المخصوص في هذه الوثيقة ، وهم في مقدمة الممنوعين من الدعوة لرأيهم ، بل قد يكون ورود اسم المعتـزلة منفردا ،
يظهر بوضوح أنـهم المطلوب خروجهم من حياة المسلمين ،
وسبب ذلك هو محاربتهم للجور ؛
بالقول بخلق العباد لأفعالهم ،
ولقولـهم في المنـزلة بين المنـزلتين ،
فيخرج الحكام الفسقة الظلمة عن اسم الإيمان
( المدح )
وهو يقتضي الولاء لمن وصف بالإيمان ،
إلى اسم من أسماء الذم ؛
وهو الفاسق ،
وبالتالي فالدعوة للثورة على مثل هؤلاء الحكام مطلوبة شرعا حسب أصل المـعتزلة الخامس وهو : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
طبق المعتزلة الأصل الخامس :
بأن يختارون إماما يبايعونه سرا ،
يكون على مستوى عال من العلم والشجاعة والتقوى ، وعلى الغالب كان الأمام المبايع في ذلك الزمن واحدا من آل البيت ،
وهذه البيعة لم تكن له بسبب نسبه بل بسبب صفاته ، فالإمامة عند المعتزلة عقد مراضاة ،
ويقوم دعاتـهم الذين يبثون في الأقطار لتهيئه الناس للثورة على نظام الجور ،
ومعلوم ثورة المعتزلة مع زيد بن علي بن الحسين ، والأمير الأموي يزيد بن الوليد بن عبد الملك الملقب بالناقص ،
حاء في مقطوعة شعرية عن خلفاء بني أمية ذكرها ابن كثير فيها عن يزيد هذا :
ثم يزيد بن الوليد فائقا
يلقب الناقص وهو كامل
لقد ثار المعتزلة أيضا مع محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم ضد أبي جعفر المنصور ومع يحيى وإدريس والحسين بن علي الفخي فمن رأيهم عدم السكوت على سياسة الجور .
القراءة الثانية
دَوَّنَ ابنُ كثير في البداية والنهاية أخبارَ سنة 409هـ ومنها ما يلي : في يوم الخميس السابع عشر من المحرم ؛ قرأُ بدار الخلافة في الموكب ؛ كتاب في مذهب أهل السنة وفيه " أنَّ من قال القرآن مخلوق فهو كافر حلال الدم " .






ذكر ابن كثير في حوادث سنة 420هـ ما يلي :
وفي يوم الاثنين منها ثامن عشر رجب غار ماء دجلة حتى لم يبق منه إلاَّ القليل ووقفت الأرحاء عن الطحن ، وتعذر ذلك .
وفي هذا اليوم جمع القضاة والعلماء في دار الخلافة ، وقرأ عليهم كتاب جمعه القادر بالله في مواعظ وتفاصيل مذاهب أهل البصرة ،
( المقصود بمذاهب أهل البصرة أفكار المعتزلة في التوحيد والعدل )
وفيه الرد على أهل البدع وتفسيق من قال بخلق القرآن ،
وصفة ما وقع بين بشر المريسي وعبد العزيز بن يحيى الكناني من المناظرة ،
ثم ختم القول بالمواعظ والقول بالمعروف والنهي عن المنكر .
وأخذ خطوط الحاضرين بالموافقة على ما سمعوه . وفي يوم الاثنين غرة ذي القعدة جمعوا أيضا كلهم وقرأ عليهم كتاب آخر طويل يتضمن
بيان السنة والرد
على أهل البدع
ومناظرة بشر المريسي والكناني أيضا
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
وفضل الصحابة ،
وذكر فضائل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما
ولم يفرغوا منه إلاَّ بعد العتمة ،
وأخذت خطوطهم بموافقة ما سمعوه ،
وعزل خطباء الشيعة
وولي خطباء السنة
ولله الحمد والمنة على ذلك وغيره .
القراءة الثالثة والرابعة
القراءة الخامسة
ورد في البداية والنهاية
في أخبار سنة 433هـ
أي بعد موت القادر ب 11سنة
ما يلي :
وفيها قرأ الاعتقاد القادري
الذي جمعه الخليفة القادر ،
وأخذت خطوط العلماء والزهاد عليه بأنه اعتقاد المسلمين ،
ومن خالفه فسق وكفر ،
وكان أول من كتب عليه
الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ،
ثم كتب بعده العلماء ،
وقد سرده الشيخ أبو الفرج بن الجوزي ،
وفيه جملة جيدة من اعتقاد السلف .

نص الوثيقة القادرية

وفي هذه السنة
قرأ الاعتقاد القادري في الديوان .
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ ،
حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد الفراء قال :
أخرج الإمام القائم بأمر الله ؛
أمير المؤمنين أبو جعفر أبن القادر بالله ـ
في سنة نيف وثلاثين وأربعمائة ـ
الاعتقاد القادري ؛
الذي ذكره القادر ؛
فقرأ في الديوان ،
وحضر الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ، فكتب خطه تحته قبل أنْ يكتب الفقهاء ،
وكتب الفقهاء خطوطهم .
فيه إنَّ هذا
-----------------------
اعتقاد المسلمين ومن خالفه فقد فسق وكفر
----------------------
وهو : يجب على الإنسان أنْ يعلم أنَّ الله جل جلاله وحده ،
لا شريك له ،
لم يلد ولم يولد ،
ولم يكن له كفوا أحد ،
لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ،
ولم يكن له شريك في الملك ،
وهو أول لم يزل ، وآخر لا يزال ،
قادر على كل شيء ،
غير عاجز عن شيء ، إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ،
غنيٌ غير محتاج إلى شيء ،
لا اله إلاَّ هو الحي القيوم ،
لا تأخذه سنة ولا نوم ،
يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ ، لا يستوحش من وُحْدَةٍ ، ولا يأنس بشيء ، وهو الغني عن كل شيء ، لا تخلفه الدهور والأزمان ، وهو خالق الدهور والأزمان ، والليل والنهار ، والضوء والظلمة ، والسماوات والأرض وما فيها من أنوع الخلق ، والبر والبحر وما فيهما ، وكل شيء حيٍ أو موات أو جماد ، كان ربنا وحده ، لا شيء معه ،
ولا مكان يحويه ، فخلق كل شيء بقدرته ،
وخلق العرش لا لحاجته إليه ،
فاستوى عليه كيف شاء وأراد ،
لا استقرار راحة ؛
كما يستريح الخلق ،
وهو مدبر السماوات والأرضين ، ومدبر ما فيهما ، ومن في البر والبحر ، ولا مدبر غيره ، ولا حافظ سواه ، يرزقهم ويمرضهم ويعافيهم ويميتهم ويحييهم ، والخلق كلهم عاجزون والملائكة والنبيون والمرسلون والخلق كلهم أجمعون ،
وهو القادر بقدرة ، والعالم بعلم أزلي غير مستفاد ، وهو السميع بسمع ، والمبصر ببصر ، يعرف صفتهما من نفسه ، لا يبلغ كنههما أحد من خلقه ، متكلم بكلام لا بآلة مخلوقة كآلة المخلوقين ، لا يوصف إلاَّ بما وصف به نفسه ،
أو وصفه به نبيه صلوات الله عليه وكل صفة وصف بـها نفسه ؛
أو وصفه بـها رسوله صلى الله عليه وسلم ؛
فهي صفة حقيقية لا مجازية ،
ويُعلم أنَّ كلام الله تعالى غير مخلوق ؛
تكلم به تكليما ؛
وأنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم على لسان جبريل ؛
بعد ما سمعه جبريل منه ؛
فتلاه جبريل على محمد ؛
وتلاه محمد على أصحابه ؛
وتلاه أصحابه على الأمة ،
ولم يصر بتلاوة المخلوقين مخلوقا ؛
لأنه ذلك الكلام بعينه الذي تكلم الله به ؛
فهو غير مخلوق
[فبكل] حال [ الكلمة مطبوعة في المنتظم كما هي بين القوسين والأمر خطأ مطبعي أو خطأ في اللغة فلا بد أنْ تكون الكلمة "في كل حال "]
وهنا يتواصل الكلام :
متلوا ومحفوظا ومكتوبا ومسموعا ، ومن قال : إنَّه مخلوق على حال من الأحوال ؛ فهو كافر حلال الدم بعد الاستتابة منه ، ويعلم أنَّ الإيمان قول وعمل ونية ؛ وقول باللسان وعمل بالأركان والجوارح ؛ وتصديق به يزيد وينقص : يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، وهو ذو أجزاء وشعب ، فأرفع أجزائه لا اله إلاَّ الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الأيمان ، والصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد ، والإنسان لا يدري كيف هو مكتوب عند الله ، ولا بماذا يختم له ، فلذلك يقول : مؤمن إن شاء الله ، وأرجو أنْ أكون مؤمنا ، ولا يضره الاستثناء والرجاء ، ولا يكون بـهما شاكا ؛ ولا مرتابا ، لأنه يريد بذلك ما هو مغيب عنه ، من أمر آخرته وخاتمته ، وكل سيء يتقرب به إلى الله تعالى ؛ ويعمل لخالص وجهه من الطاعات : فرائضه ، وسننه ، وفضائله ، فهو كله من الإيمان منسوب إليه ، ولا يكون للإيمان نـهاية أبدا ؛ لأنه لا نـهاية للفضائل ؛ ولا للمتبوع في الفرائض أبداً ،
ويجب أنْ يحب الصحابة من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلهم ، ونعلم أنـهم خير الخلق بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وأنَّ خيرهم كلهم وأفضلهم بعد رسول الله ـ صلى الله علية وسلم ـ
أبو بكر الصدِّيق ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان ، ثم علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم ، ويشهد للعشرة بالجنة ،
ويترحم على أزواج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن سب سيدتنا عائشة ـ رضي الله عنها ـ
فلا حظ له بالإسلام ،
-----------------------
ولا يقول في معاوية ـ رضي الله عنه ـ
إلاَّ خيرا ،
ولا يدخل في شيء شجر بينهم ، ويترحم على جماعتهم ،
-----------------------------
قال الله تعالى
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ
[ (الحشر:10)
وقال فيهم : ]
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [ (الحجر:47)
ولا يكفر بترك شيء من الفرائض غير الصلاة المكتوبة وحدها ،
فإنه من تركها من غير عذر وهو صحيح فارغ حتى يخرج وقت الأخرى فهو كافر ؛
وإنْ لم يجحدها ، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( بين العبد والكفر ترك الصلاة ) .
فمن تركها فقد كفر ، ولا يزال كافرا حتى يندم ويعيدها ، فأنْ مات قبل أنْ يندم ويعيد أو يضمر أنْ يعيد ، لم يصلَّ عليه وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن أبي خلف ، وسائر الأعمال لا يكفر بتركها ، وإنْ كان يفسق حتى يجحدها ،
ثم قال : هذا قول أهل السنة والجماعة ؛ الذي من تمسك به كان على الحق المبين ؛ وعلى منهاج الدين والطريق المستقيم ، ورجا به النجاة من النار ؛ ودخول الجنة إنْ شاء الله تعالى ، وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وعلم الدين النصيحة ، قيل : لمن يا رسول الله ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم . وقال عليه السلام : أيما عبد جاءته موعظة من الله تعالى في دينه ، فإنـها نعمة من الله سيقت إليه ، فإن قبلها يشكر ، وإلاَّ كانت حجة عليه من الله ؛ ليزداد بـها إثماً ويزاد بـها من الله سخطا ) جعلنا الله لألائه من الشاكرين ؛ ولنعمائه ذاكرين ، وبالسنة معتصمين ، وغفر لنا ولجميع المسلمين .

تحذير من الخديعة
ربما ينخدع بعض الناس ـ وخاصة الطيبين البسطاء ـ في مقولات هذه الوثيقة من ظاهر فيه ورع ودعوة للتحلى بإكبار كبار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وصون اللسان عن التعرض لنساء الرسول ـ صلوات الله عليه ـ والتركيز على ركن من أركان العبادات وهو الصلاة لكن بجب أن لا يخفى على أحد ، أنَّ الوثيقة منعت الاجتهاد ، وسلت سيف التكفير في وجه المعتزلة ـ بحجة قولهم بخلق القرآن ـ واباحت قتل المسلمين على أمر اجتهادي ، وليحذر من الوقوع أسارى للقول المزيف في أمر المحنة ، فالمحنة ليست من صنيع المعنزلة ، ولم يقتل فيها أي شخص









هل السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السنة !!؟

هل السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السنة !!؟

جاء في كتاب الجامع لأحكام القرآن/المقدمة/باب تبيين الكتاب بالسنة

وما جاء في ذلك :

"وروى سعيد بن منصور حدثنا عيسى ابن يونس عن الأوزاعي عن مكحول قال :

القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن.

وبه عن الأوزاعي قال قال يحيى بن أبي كثير : السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة

قال الفضل بن زياد :

سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل وسئل عن هذا الحديث الذي روي أن السنة قاضية على الكتاب فقال ما أجسر على هذا أن أقوله ولكني أقول إن السنة تفسر الكتاب وتبينه."

ومعلوم أن السنة الشريفة دونت في القرنين الثاني والثالث الهجريين ، وأن البخاري ومسلم رحمهما الله، قد دونا صحيحيهما في القرن الثالث الهجري ، حيث كان الحديث قبل ذلك يتداول مشافهة على ألسنة الرواة.

ولا يمكن لنص شفهي ( غير كتاب الله سبحانه وتعالى) أن يبقى يتداول مشافهة على الألسن ثلاثة أيام ، دون أن يلحقه التبديل والتغيير والتحريف والزيادة والنقصان ، ونحن هنا لانتكلم عن أيام و إنما نتكلم عن قرون ( مائتين وخمسين عاما تقريبا )

بقي فيها الحديث يتداول مشافهة على ألسنة الرواة ، ويأتي بعد ذلك من يقول لنا :

" السنة قاضية على الكتاب ، وليس الكتاب بقاض على السنة.

لقد تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظ كتابه العزيز من التبديل والتغيير والتحريف :

" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"

، ولما عجز أعداء الله سبحانه وتعالى أن يُدْخِلوا إلى كتاب الله سبحانه وتعالى ما ليس منه ، دخلوا من خلال السنة الشريفة ، فأدخلوا في ديننا ما ليس منه ، ثم أخضعوا كتاب الله سبحانه وتعالى لرواياتهم المكذوبة على رسول الله (ص)، وقالوا :

" السنة قاضية على الكتاب ، وليس الكتاب بقاض على السنة

للأسف الشديد ، فإن كثيرا من المسلمين يقدمون الحديث على كتاب الله سبحانه وتعالى، ويخضعون كتاب الله سبحانه وتعالى لأحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلوون أعناق الآيات ليّا حتى تبدو الأحاديث وكأنها لاتخالف كتاب الله سبحانه وتعالى

ولا يمكن لحديث صحيح ، أن بخالف كتاب الله سبحانه وتعالى.

وإذا خالف حديث كتاب الله سبحانه وتعالى فاعلم أنه مكذوب على رسول الله (ص) ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من ذلك الحديث، أيا كان راوي الحديث

http://taha14.blogspot.fr/2013/11/blog-post_31.html


http://mamounk.blogspot.fr/p/blog-page_3.html

La solution pour protéger ses claquettes dans une mosquée où hélàs certains individus ultra-minoritaires qui n'ont rien à voir avec les valeurs de l'islam n'hésitent pas à voler

La solution pour protéger ses claquettes dans une mosquée où hélàs certains individus ultra-minoritaires qui n'ont rien à voir avec les valeurs de l'islam n'hésitent pas à voler

جدل مع فكر الإعتزال 3





جدل مع فكر الإعتزال 3

العدليون والمرحلة الجديدة [ المعتزلة ]
    يمرُّ العدليون الآن في أخطر مرحلة من مراحل الدعوة ، فقد تجاوزت الدعوة مرحلتين من مراحل النشوء هما : الإرهاص [ فترة ما قبل الولادة ] ، والإعلان عن هذه الولادة ، ومع أنَّ ولادة الدعوة تمت في الأردن ، إلاَّ أنَّ الإعلان تجاوز الأردن إلى أكثر من بقعة من بقاع العالم الإسلامي ، بل وصلت العالم كله ، ومع أنَّ حركة الدعوة ، أي دعوة تبدأُ بطيئة ، والمطلوب منها بعد البدء إحداث عملية التسارع لإحداث الانقلاب الفكري ـ مع  الابتعاد عن التجميع والتهاون في نشر الدعوة ، وفهم معطياتـها ، إذ لابد أن يظهر فيها واضحا جليا الوعي ، وقوة الدفع الذاتي ، وإبعاد جميع المثبطات ، من دعاية ظالمة ، أو تعتيم إعلامي ، أو صعوبة قبول أفكار الدعوة العدلية ، أو محاولة إشغال العدليين عن الدعوة ، بأمور تعتبر من حالات الترف الفكري ، أو بالاستجابة للقضايا السطحية الساذجة ، ذلك أنَّ الأمة استمرأت قبول أمور إيمانـها اعتمادا على الموروث من جهة ، وجعله مقتصرا على متطلبات التعبد ، وليس على متطلبات التكليف الإسلامي الشمولي وساد بينهم ـ مقولة نريد أعمالا ، ولا نريد أقوالا ـ وينسون أنًّ ما من عمل إلا وقبله قول أي صورة ذهنية للعمل كيفا وكما وأسلوبا ووسائل وآليات وتوقيتا كل هذا على مستوى فعل الفرد لنفسه قال تعالى مبيناً أهمية القول : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (فصلت:33)
 فذكرت الآية القول مرتين وذكرت العمل مرة واحدة ولقد قيل : من قال أنَّ الكلام لا ينفع فلكلامه لا تسمع .
  إنَّ العمل على المستوى الجماعي أكثر تعقيدا فهو تعامل مع نفسيات مختلفة وعقول متباينة ومصالح متضاربة وأهداف متعددة وشخصيات ساعية للحصول على تقدير الذات هذا إذا كان العمل لزمرة أما حين يكون العمل لإنـهاض أمة فهو عمل لا يقدر عليه إلا السائر على درب المصلحين وإذ المصلحون يواجهون دروبا عدة يختارها الواحد وهو مشدود إلى ذاته وموروثه وجماعته التي ينتمي إليها مع أنَّ الأصل بناء الإصلاح على إدراك حقيقة الإنسان إذ يظهر في الإنسان واضحا قدرته على المعرفة وقدرته على تسخير الطبيعة وظواهرها لحياته 0
  في هذين الأمرين : معرفته ، وقدرته على تسخير الطبيعة ، تكمن المشكلة الإنسانية ؛ إذ في ترك الأمرين دون حل ، تتحول الحياة الإنسانية إلى صراع البقاء ، فيتسوَّدُ الأقوياء ، ويهيمنون وترتضي مجموعة الضعفاء الانخراط في قبول نظام الهيمنة ، والتعايش معه ، فيقبلون نظام الرق ، أو السخرة ، أو التبعية . السؤال الضروري ليعلم الإنسان موضعه قي هذه الحياة الدنيا هو : هل هو مخلوق لله تعالى ؟ أم هو مجرد مخلوق للمادة ؟ في حركتها السائرة صعداً كما هي دعوى الماديين ،  أم أن الإيمان بإله أمر لا أهمية له ؟ ذلك هو سؤال ضروري لابد من جواب عليه ، إذ في الجواب يأتي التفسير لمعنى الوجود ، وبدون التفسير هذا لا يحدث المسار التاريخي حركة الحضارة بشقيها ، وإنما يحدث مجرد مسار عيش ، فينـزل الإنسان إلى درك الحيوان ، يصارع بعضه بعضا على الرغيف ، يحوزه هو أو أنت أو أنا ، بدل كيفية تقاسم العيش ، فالتفسير لسبب الوجود أمر ضروري للسير الإنساني ، وهو الذي يشكل وجة النظر التي تقود الحياة ،
بعض رجال المعتزلة
في هذا البحث ستتعرّف على أئمّة المعتزلة الّذين رسموا معالم المنهج  . ومنهم شخصيّات فكرية لامعة ، ومع ذلك تعرضت المعتزلة للتشويه والسيئ من القول ، بشأن رجالها وآرائها ، من قبل علماء الفرق المختلفة : من أشعرية نشأت نشئة مشبوهة ؛ مع أنـها من حيث الفكر عالة على المعتزلة ، وأهل الحديث وهم نابتة حشوية ، تجعل الآثار والأخبار والرجال حكما على العقل والقرآن ، وللإمامية دور في نشر هذه الأقاويل عن المعتزلة ، ذلك أنـهم لا ينظرون للدليل ، بل تركز همهم في نصرة المعصومين ، وجعل أقوال المعصومين هي معيار الحق ، ولكن الحجة تعوزهم حبن البحث بقضية وجود فكرة المعصوم ، وحقيقة نسبة الأقوال إليهم ، يقول السبحاني في تقييم آراء أئمة المعتزلة : " لقد شاركوا الأئمّة في نضج المذهب و نشره ، ولكنّهم دون الأئمّة في العلم والتفكير ". والدراسة التاريخية تثبت أنَّ رجال المعتزلة هم الذين حازوا قصب السبق في تأصيل الأصول .  ولأجل إيقاف القارئ على حياتهم و آرائهم و آثارهم  هذه ترجمة قسم قليل منهم :
  قال الشريف المرتضى : «هو من وجوه أهل الكلام ويقال : إنّ جميع معتزلة بغداد بعده من مستجيبيه. وقال أبو القاسم البلخي : إنّه من أهل بغداد وقيل من أهل الكوفة...وله أشعار كثيرة يحتجّ فيهاعلى أهل المقالات»(1) وقال القاضي : «إنّه زعيم البغداديين من المعتزلة وله قصيدة طويلة يقال إنّها أربعون ألف بيت ، ردّ فيها على جميع المخالفين ، ويقال إنّ الرّشيد حبسه حين قيل له : إنّه رافضيّ . فقال في السجن أبياتاً بعثها إليه فأفرج عنه»(2). توفّي عام 210 كما أرّخه الذّهبي في «لسان الميزان».


.
 
     يكنّى أبا عمرو ، وكان عالماً عدلاً و تفرّد بمذاهب ، وكان بشر بن المعتمر وهشام بن عمرو وأبو الحسين المدائني من تلامذته .
   قال القاضي عبدالجبّار : «لمّا منع الرّشيد من الجدال في الدين و حبس أهل علم الكلام ، كتب إليه ملك السند : إنّك رئيس قوم لا ينصفون و يقلِّدون الرجال و يغلبون بالسيف ، فإن كنت على ثقة من دينك فوجّه إليّ من اُناظره ، فإن كان الحقّ معك تبعناك ، وإن كان معي تبعتني. فوجّه إليه قاضياً ، و كان عند الملك رجل من السمنية وهو الّذي حمله على هذه المكاتبة ، فلمّا وصل القاضي إليه أكرمه ورفع مجلسه ، فسأله السمني فقال : أخبرني عن معبودك هل هو القادر؟ قال : نعم ، قال : أهو قادر على أن يخلق مثله ؟ فقال القاضي : هذه المسألة من علم الكلام وهو بدعة ، وأصحابنا ينكرونه .
   فقال السمني : من أصحابك ؟ فقال: فلان وفلان وعدّ جماعة من الفقهاء ، فقال السمني للملك : قد كنت أعلمتك دينهم وأخبرتك بجهلهم و تقليدهم و غلبتهم بالسيف ، قال : فأمر ذلك الملك القاضي بالانصراف ، وكتب معه إلى الرشيد : إنّي كنت بدأتك بالكتاب وأنا على غير يقين ممّا حكي لي عنكم ، فالآن قد تيقّنت ذلك بحضور هذا القاضي ـ وحكى له في الكتاب ما جرى .
   فلمّا ورد الكتاب على الرّشيد قامت قيامته ، وضاق صدره ، وقال: أليس لهذا الدين من يناضل عنه ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين ، هم الّذين نـهيتهم عن الجدال في الدين ، و جماعة منهم في الحبس . فقال : أحضروهم ! فلمّا حضروا قال : ما تقولون في هذه المسألة ؟ فقال صبي من بينهم : هذا السؤال محال ، لأنّ المخلوق لا يكون إلاّ محدثاً ، والمحدث لا يكون مثل القديم ، فقد استحال أن يقال : يقدر على أن يخلق مثله أو لا يقدر ، كما استحال أن يقال : يقدر أن يكون عاجزاً أو جاهلاً ، فقال الرشيد: وجّهوا بـهذا الصبي إلى السند حتّى يناظرهم . فقالوا : إنّه لا يؤمّن أن يسألوه عن غير هذا ، فيجب أن توجّه من يفي بالمناظرة في كلّ العلم . قال الرشيد : فمن لهم ؟ فوقع اختيارهم على معمر ، فلمّا قرب من السند بلغ خبره ملك السند فخاف السمني أن يفتضح على يديه وقد كان عرفه من قبل ، فدسّ من سمّه في الطّريق فقتله»(1).
   والقول الحق في المسألة هو : ما أجاب به الصّبي صحيح من جهة ، غير أنّ العبارة غير وافية، والمقصود : ما سأله عن (خلق المثل) محال لا نفس السؤال محال .
   قال صاحب كتاب «المعتزلة» : «فلئن صحّت هذه القصّة فإنّها تعني أنّ الرشيد لم يجد في مملكته الواسعة من يدافع عن الإسلام غير المعتزلة .
   والواقع أنّ المعتزلة تحمّسوا لهذه القضية كثيراً ، فلم يكتفوا بالردّ على المخالفين وتقطيعهم بل تعدّوا ذلك إلى نشر الدين الإسلامي ، و حمل الناس على اعتناقه ، فكانوا لا ينفكّون يرسلون وفودهم لهذا الغرض إلى البلاد الّتي يكثر فيها المجوس أو غيرهم من الوثنيين»(2).
   ويقول صفوان الأنصاري شاعر المعتزلة في مدح واصل وصحبه ما يظهر حقيقة الجهود الّتي بذلوها في سبيل الدفاع عن حوزة الدين و محاولة نشره في الآفاق :

رجال دعـاة لا يفلّ عزيـمهم * تـحكّم جـبّار ولا كيد ساحر

   إذا قال  مرّوا في الشتاء تطاوعوا *وإن كان صيفاً لم يخف شهر ناجر(3)

  
  قال ابن النّديم : «نبيه من جلّة المتكلّمين المعتزلة ، كاتب بليغ ، بلغ من المأمون منزلة جليلة وأراده على الوزارة فامتنع »(4).
  قال البغدادي : «كان زعيم القدريّة في زمن المأمون والمعتصم والواثق ، وقيل : إنّه هو الّذي دعا المأمون إلى الاعتزال»(1). ولا يثبت هذا القول ، ولكنه دعاه لإعلان النقمة على بني أمية ، ولكن القاضي يحيى بن أكثم قاضي المأمون ومعدود من أهل الفقه نصح المأمون غير ذلك .   
  وقال ابن المرتضى: «ثمامة ابن الأشرس ، يكنّى أبا معن النّميري ، وكان واحد دهره في العلم والأدب ، وكان جدلاً حاذفا ً. قال أبو القاسم : قال ثمامة يوماً للمأمون : أنا اُبيّن لك القدر بحرفين و أزيد حرفاً للضّعيف . قال : ومن الضّعيف ؟ قال : يحيى بن أكثم ، قال : هات ! قال :لا تخلو أفعال العباد من ثلاثة أوجه : إمّا كلّها من الله ولا فعل لهم ، لم يستحقُّوا ثواباً ولا عقاباً ولا مدحاً ولا ذمّاً. أو تكون منهم ومن الله ، وجب المدح والذمّ لهم جميعاً ، أو منهم فقط ، فكان لهم الثّواب والعقاب والمدح والذّم. قال: صدقت(2).
  والقول الصحبح في الموضوع هو ما قاله ثمامة . ومن يذهب إلى غير ذلك من الإمامية فلا حجة لهم فيه ، أذ يستندون في قولهم إلى افتراض أنَّ لله تعالى فاعلية في فعل المكلف ، ولا يبينون هذه الفاعلية إلآَّ إنـها تعود إلى خلق الله للإنسان ، وتمكينه من الفعل ، ويقولون : إنّ استناد الفعل إلى الله و العبد : إنّما يقتضي الاشراك في الثّواب والعقاب ، أو المدح والذّم ، إذا كانا فاعلين بالسّويّة في جميع المراحل ، حتّى في مرحلة الجزء الأخير من العلّة التامّة للفعل ، كما إذا اشترك الفاعلان معاً : في إنقاذ غريق ، أو قتل إنسان ، وأمّا إذا كان أحدهما هو الجزء المؤثّر ـ دون الآخر ـ فيكون هو المسؤول ، وعليه الثّواب والعقاب ، وهذا هو الأمر بين الأمرين ، والعبد غير مجبور ولا مفوّض ، والتّفصيل في محله ، ويلاحظ القارئ جعلهم الإنسان هو الجزء المؤثر في الفعل . وكل من اطلع على ما كتبه علماء الشيعة ( في موضوع الأمر بين الأمرين ) لا يجد لهم مفهموما واضحا .  
   روى المرتضى أنّه سأل مجبرٌ بشر بن المعتمر وقال له : «أنتم تحمدون الله على إيمانكم ؟ قال : نعم ، فقال له : فكأنّه (الله) يحبُّ أن يحمد على ما لم يفعل ، وقد ذمّ ذلك في كتابه . فقال له : إنّما ذمّ من أحبّ أن يحمد على ما لم يفعل ممّن لم يعن عليه ، ولم يدع إليه . وإذ هو يشغب إذ أقبل ثمامة بن أشرس ، فقال بشر للمجبر : قد سألت القوم وأجابوك ، وهذا أبو معن فاسأله عن المسألة ، فقال له : هل يجب عليك أن تحمد الله على الإيمان ؟ فقال : لا ! بل هو يحمدني عليه ، لأنّه أمرني به ففعلته ، وأنا أحمده على الأمر به ، والتّقوية عليه ، والدعاء إليه ، فانقطع المجبر ، فقال بشر: شنُعتْ فسهُلت»(1).
   وقال يوماً للمأمون: «إذا وقف العبد ـ بين يدي الله تعالى يوم القيامة ـ فقال الله تعالى : ما حملك على معصيتي ؟ فيقول على مذهب الجبر : يا ربِّ أنت خلقتني كافراً ، وأمرتني بما لم أقدر عليه ، وحلت بيني وبين ما أمرتني به ، ونهيتني عمّا قضيته عليّ ، وحملتني عليه ، أليس هو بصادق ؟ قال : بلى ! قال : فإنّ الله تعالى يقول: ( قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )(المائدة: من الآية119) أفينفعه هذا الصّدق ؟ فقال بعض الهاشميّين : ومن يدعه يقول هذا أو يحتجّ (به) ؟ فقال ثمامة : أليس إذا منعه الكلام والحجّة ؛ يعلم أنّه قد منعه من إبانة عذره ، وأنّه لو تركه لأبأنّ عذره؟ فانقطع»(2).
   وقد ترجم له الخطيب في تأريخه ، ومن ظريف ما نقل عنه أنّه قال : شهدت رجلاً يوماً من الأيّام وقد قدّم خصماً إلى بعض الولاة فقال : أصلحك الله ! ناصبيّ ، رافضيّ ، جهمىُّ ، مشبِّه ، مجبّر ، قدريّ ، يشتم الحجّاج بن الزبير ، الّذي هدم الكعبة على عليّ بن أبي سفيان ، و يلعن معاوية بن أبي طالب . فقال له الوالي : ما أدري ممّا أتعجّب ؟ من علمك بالأنساب ! أو من معرفتك بالمقالات ؟ فقال : أصلحك الله ما خرجت من الكتاب حتّى تعلّمت هذا كلّه»(3).
   وقال الذّهبي : «من كبار المعتزلة ، ومن رؤوس الضّلالة ، كان له اتّصال بالرّشيد ، ثمّ بالمأمون وكان ذا نوادر وملح»(4).
   ومن أراد الوقوف على نوادره ، فعليه الرجوع إلى «المنية والأمل» ، و «فضل الاعتزال» ، وقد اتّفقا ـ على أنّ وجه اتّصاله بالخلفاء ـ صار سبباً لوجود بعض الهزل في كلامه ، وقد اتّخذه طريقاً إلى ميلهم إليه ، ليتوصّل به إلى المعونة في الدين .



   قال القاضي :«كان من أفصح النّاس و أفقههم و أورعهم . لكنّه ينفي الأعراض ، وله تفسير عجيب ، وكان جليل القدر يكاتبه السلطان ، وعنه أخذ ابن عليّة(1) العلم ، والّذي نقم عليه أصحابنا بعد نفي الأعراض ، ازوراره عن عليّ ـ عليه السلام ـ وكان أصحابنا يقولون: بلى بمناظرة هشام بن الحكم المشهور بالقول بالتجسيم فيعلوه هذا ويعلوه هذا»(2).
   قال القاضي : «كان متكلّماً عالماً زاهداً ، وكان يسمّى راهب المعتزلة لعبادته ، ويقال : إنّ أبا الهذيل حضر مجلسه ، و سمع قصصه بالعدل ، وحسن بيانه على الله تعالى و عدله وتفضّله ، فقال : هكذا شهدت أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء ، و أبي عثمان عمرو بن عبيد ، وله كتب في الجليّ من الكلام ، و لمّا حضرته الوفاة ذكر أنّ ما كان في يديه من المال شبهة لم يدر ما حكمها ، فأخرجها إلى المساكين تحرّزاً و إشفاقاً، وقيل في  جعفر بن حرب ـ وهو من تلاميذه ـ شعر :
لكنّ من جمع المحاسن كلّها * كهلٌ يقال لشيخه المردار(3)
ذكر القاضي أنّ من تلاميذه الجعفرين و المراد : جعفر بن حرب و جعفر بن مبشر وذكر ترجمتهما في الطّبقة السابعة.
  إنّ جعفر بن حرب كان من الجند ، وكان في جنديّته (حداثته) يمرّ على أصحاب أبي موسى و يعبث بـهم ويؤذيهم ، فشكوا إلى أبي موسى فقال: تعهّدوا إلى أن يصير إلى مجلسي ، فلمّا صار إلى مجلسه وسمع كلامه و وعظه مرّ ( خرج) حتى دخل الماء عارياً من ثيابه ، وبعث إلى أبي موسى أن يبعث له ثياباً ليلبسها ففعل ، ثمّ لزمه فخرج في العلم ما عرف به .
  وكان أبو الوليد ـ بشر بن وليد بن خالد الكندي ـ قاضياً على مدينة للخليفة المأمون ، وكان شديد القسوة على أبي موسى وأصحابه ، فدخل إبراهيم بن أبي محمّد اليزيدي ، وهو رضيع المأمون عليه ، فأنشد هذه الأبيات :
يا أيّها الملك الموحِّد ربّه * قاضيك بشر بن الوليد(1) حمار
ينفي شهادة من يبثّ بما به * نطق الكتاب وجاءت الآثار
فالنفي للتشبيه عن ربِّ العلا * سبحانه وتقْدس الجبّار
ويعدّ عدلاً من يدين بأنّه * شيخ تحيط بجمسه الأقطار
إنّ المشبِّه كافر في دينه * والدائنون بدينه كفّار
فاعزله واختر للرعية قاضياً * فلعلّ من يرضي ومن يختار
عند المريسى (2) اليقين بربِّه * لو لم يشب توحيده اجبار
والدين بالارجاء مبنى أصله * جهل وليس له به استبشار
لكن من جمع المحاسن كلّها * كهل يقال لشيخه المزدار(3)


قال الخطيب:«محمد بن عبدالله أبو جعفر المعروف بالاسكافي أحد المتكلّمين من معتزلة البغداديّين، له تصانيف معروفة، وكان الحسين بن عليّ بن يزيد الكرابيسي صاحب الشافعي يتكلّم معه و يناظره و بلغني أنّه مات في سنة أربعين ومائتين»(1).
وقال ابن أبي الحديد: «كان شيخنا أبو جعفر الاسكافي ـ رحمه الله ـ من المتحقّقين بموالاة عليّ ـ عليه السلام ـ والمبالغين في تفضيله، وإن كان القول بالتفصيل عامّاً شائعاً في البغداديّين من أصحابنا كافّة إلاّ أنّ أبا جعفر أشدُّهم في ذلك قولاً و أخلصهم فيه اعتقاداً»(2).
وقال أيضاً: «وأمّا أبو جعفر الاسكافي وهو شيخنا محمّد بن عبدالله الاسكافي، عدّه قاضي القضاة في الطّبقة السابعة من طبقات المعتزلة، مع عبّاد بن سليمان الصيمري، ومع زرقان، ومع عيسى بن الهيثم الصوفي، وجعل أوّل الطّبقة ثمامة بن أشرس أبا معن، ثمّ أبا عثمان الجاحظ، ثمّ أبا موسى عيسى بن صبيح المردار، ثمّ أبا عمران يونس بن عمران... إلى أن قال: كان أبو جعفر فاضلاً عالماً صنّف سبعين كتاباً في علم الكلام»(3).
وهو الّذي نقض كتاب «العثمانيّة» على أبي عثمان الجاحظ في حياته، ودخل الجاحظ الورّاقين ببغداد، فقال: من هذا الغلام السواري الّذي بلغنا أنّه يعرض لنقض كتبنا والاسكافي جالس، فاختفى حتّى لم يره»(4).
وكان أبو جعفر يقول بالتفضيل على قاعدة معتزلة بغداد و يبالغ في ذلك وكان علوي الرأي، محقّقاً منصفاً، قليل العصبيّة(5). وظاهر نصّ القاضي أنّه ألّف تسعين كتاباً في علم الكلام(1).، كتاب إثبات خلق القرآن، كتاب الردّ على المشبّهة، كتاب المخلوق على المجبِّرة، كتاب بيان المشكل على برغوث، كتاب التمويه نقض كتاب حفص، كتاب النّقض لكتاب أبي الحسين النجّار، كتاب الردّ على من أنكر خلق القرآن، كتاب الشّرح لأقاويل المجبِّرة، كتاب إبطال قول من قال بتعذيب الأطفال، كتاب جمل قول أهل الحقّ، كتاب النّعيم، كتاب ما اختلف فيه المتكلّمون، كتاب الردّ على أبي حسين في الاستطاعة، كتاب فضائل عليّ ـ عليه السلام ـ ، كتاب الأشربة، كتاب العطب، كتاب الردّ على هشام، كتاب نقض كتاب أبي شبيب في الوعيد(2).
وقداشتهر من بين كتبه كتاب «النقض على العثمانيّة» للجاحظ، وهذا يدلّ على أنّ الرّجل كان مبدئياً متحمّساً حيث قام بالمحاماة عن أكبر شخصيّة إسلامّة من أهل بيتالرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في العصر الّذي استفحل الانحراف عن أهل البيت، وشاع التكالب على الدُّنيا بين الناس، وراج التقرّب إلى أرباب السلطة من بني العبّاس أعداء أهل البيت.
ولكن هذا الكتاب لم يصل لحدّ الآن إلى أيدي المحقّقين في عصرنا هذا، غير ما نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، وقد استقصى محمّد هارون المصري محقِّق كتاب العثمانيّة للجاحظ ما رواه ابن أبي الحديد عن كتاب النّقض في شرحه، فجمعه وطبعه في آخر كتاب «العثمانيّة».
هذا، وقد نقل المقريزي في خططه آراء خاصّة عنه وهي ساقطة وضعها أعداؤه عليه. قال: «الاسكافيّة أتباع أبي جعفر محمّد بن عبدالله الاسكافي، ومن قوله : إنّ الله تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء، ويقدر على ظلم الأطفال والمجانين ... الخ»(1).
هو بشر بن غياث المريسي العدوي، كان يسكن بغداد وأخذ الفقه عن أبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة وكان الشافعي من أصدقائه مدّة اقامته ببغداد. توفي سنة 219، لاحظ تاريخ بغداد: ج 7 ص 56.
وقد ضبطه بعض المحققين بالزاء وبعده الدال. راجع فضل الاعتزال: ص 277 ـ 279.




 
تاريخ بغداد: ج 5، ص 416.
. شرح ابن أبي الحديد: ج 4، ص 63 ولكلامه ذيل نافع ولكنّه خارج عن موضوع البحث.
لم نجد هذا النص في ترجمته في طبقات القاضي المطبوع والذي حققه «فؤاد سيد». وهذا يعرب عن كون المطبوع ناقصاً محرّفاً. نعم ما بعد هذا النص موجود فيها.



وهذه صورة بعض كتبه: كتاب اللّطيف، كتاب البدل، كتاب الردّ على النظّام في أنّ الطّبعين المختلفين يفعل بهما فعلاً واحداً، كتاب المقامات في تفضيل عليّ ـ عليه السلام ـ
 

قال ابن النّديم: «هو من أفاضل المعتزلة وممّن جرّد في إظهار المذهب و الذّب عن أهله والعناية به، وهو من صنايع يحيى بن أكثم و به اتّصل بالمأمون، ومن جهة المأمون اتّصل بالمعتصم ولم ير في أبناء جنسه أكرم منه ولا أنبل ولا أسخى»(2).
قال الذّهبي: «أحمد بن أبي دؤاد القاضي جهمي بغيض، هلك سنة 240. قلّ ما روى»(3).
في «العبر» أنّه قال: «قاضي القضاة كان فصيحاً مفوّهاً شاعراً جواداً وكان مع ذلك رأساً من رؤوس الجهميّة والمعتزلة، وهو الّذي شغب على إمام أهل السنّة أحمد بن حنبل وأفتى بقتله، وقد غضب عليه وعلى آله المتوكّل العبّاسي سنة 237 فصادرهم وأخذ منهم ستّة عشر ألف ألف درهم وحبسه ومرض بالفالج ومات سنة 240 هـ»(4).
بذل القاضي أحمد بن دؤاد أقصى جهده في نشر الاعتزال واستغلّ السلطة الّتي جعلت له في ذلك السبيل بالتّرغيب تارة و بالترهيب اُخرى. والحنابلة والأشاعرة يواجهونه بالسّبِّ والشتم، لأنّه هو الّذي حاكم الإمام أحمد في قوله بقدم القرآن أو كونه غير مخلوق فأفحمه.
وقد استخرج مؤلّف كتاب «المعتزلة» صورة المحاكمة من «الفصول المختارة» المطبوعة بهامش «الكامل» للمبرّد وإليك بيانه:
ابن أبي دؤاد: أليس لا شيء إلاّ قديم أو حديث؟
ابن حنبل: نعم.
ابن أبي دؤاد: أو ليس القرآن شيئاً؟
ابن حنبل: نعم.
ابن أبي دؤاد: أو ليس لا قديم إلاّ الله؟
ابن حنبل: نعم.
ابن أبي دؤاد: القرآن إذاً حديث.
ابن حنبل: لست أنا بمتكلّم(5).


 
 وهذه إحدى صور المحاكمة ولها صور اُخر طوينا الكلام عن ذكرها وتأتى عند البحث عن محنة أحمد وهذا يعرب عن براعة الرّجل في مقام قطع الطّريق على الخصم، وهذا وأشباهه ممّا دفع الحنابلة والأشاعرة على التّحامل والازدراء بالرّجل، وسيوافيك أنّ أكثر ما نقل في محنة الإمام من التشديد والتغليظ عليه، ودوسه بالأقدام و سحبه، يرجع إلى أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي المتعصّب لإمامه وليس له مصدر في التأريخ سواه.
وقد نقل البغدادي حول و فاته قصّة أشبه بالاسطورة(1) وكم له في كتابه «الفرق بين الفرق» من نظائر.
قال القاضي نقلاً عن «المصابيح»: «إنّه نسيج وحده في العلوم، لأنّه جمع إلى علم الكلام والفصاحة، العلم بالأخبار والأشعار والفقه و تأويل الكلام وهو متقدّم في الجدّ والهزل، وله كتب في التوحيد و إثبات النبوّة ونظم القرآن و حدثه، وفي فضائل المعتزلة»(2).
أقول: كتابه الأخير هو كتاب «فضيلة المعتزلة» الّذي ردّ عليه ابن الراوندي في كتاب خاصّ أسماه «فضيحة المعتزلة» ثمّ إنّ أبا الحسين الخيّاط (م 311) ألّف كتاب «الانتصار» وانتصر فيه للجاحظ وقد طبع الانتصار لأوّل مرّة في القاهرة عام 1925.
ومن أحسن تصانيفه و أمتنها كتاب «الحيوان» في أربعة أجزاء، و«البيان والتبيين» في جزأين، و«البخلاء»، و «مجموع الرسائل»، وأردأها كتاب «العثمانيّة». وقد كتبت عن الجاحظ دراسات كثيرة بأقلام المستشرقين والعرب ومن أراد فليرجع إلى :
كتاب: «الجاحظ معلّم العقل والأدب» لشفيق جبري.
وكتاب: «أدب الجاحظ» لحسن السندوبي.
وكتاب: «الجاحظ» لفؤاد أفرام البستاني...و غيرها.
وإنّ أدب الرّجل و اطّلاعه الوسيع شيء لا ينكر وتشهد عليه آثاره المطبوعة. ولكنّ الكلام في ورعه وتقاه و نفسيّته و روحيّته، فلا يشكّ من سبر حياته في طيّات المعاجم والكتب أنّه لم يكن رجلاً مبدئيّاً أبداً، بل كان متقرّباً لفراعنة عصره، وكفى أنّه كان ملازماً لمحمّد بن عبدالملك المعروف بالوزير الزيّات. يقول ابن خلّكان: «كان محمّد المذكور شديد القسوة، صعب العريكة، لا يرقّ لأحد ولا يرحمه، وكان يقول: الرحمة خور في الطّبيعة. ووقع يوماً على رقعة رجل توسّل إليه بقرب الجوار منه، فقال: الجوار للحيطان والتعطّف للنسوان.
فلمّا أراد المتوكّل قتله أحضره و أحضر تنّورَ خشب فيه مسامير من حديد، أطرافها إلى داخل التنور تمنع من يكون فيه من الحركة، كان محمّد اتّخذه ليعذّب فيه من يطالبه ـوهو أوّل من عمل ذلك وعذّب فيه ابن أسباط المصري ـ وقال: أجرينا فيك حكمك في الناس.
فأجلس فيه. فمات بعد ثلاث و ذلك في سنة ثلاث و ثلاثين ومائتين، وقيل: إنّه كتب في التنّور بفحمة:

من له عهد بنوم * يرشد الصبَّ إليه

رحم الله رحيماً * دلّ عينيَّ عليه
ودفن ولم يعمق قبره فنبشته الكلاب و أكلته»(1).
هذا حال صديق الرّجل و زميله، فاعرف حاله من حاله. فإنّ الرجل على دين جليسه.
تدلّ آثاره على أنّ الرجل كان متلوّناً في حياته غير جانح إلى فئة، بل كان كالريشة في مهبّ الريح يميل مع كلّ ريح، فتارة يكون عثماني الهوى و يؤلّف كتاباً في ذلك ويدعمه بكتاب آخر في إمامة المروانيّة و خلافة الشجرة الملعونة في القرآن، واُخرى علويّاً يجمع الكلم القصار لعليّ ـ عليه السلام ـ يفضّل عليّاً على غيره. قال ابن قتيبة في شأنه: «تجده يحتجّ مرّة للعثمانيّة على الرافضة، ومرّة للزيديّة على العثمانيّة و أهل السنّة، ومرّة يفضّل عليّاً ـ رضي الله عنه ـ ومرّة يؤخّره...إلى أن قال: ويعمل كتاباً يذكر فيه حجج النّصارى على المسلمين، فإذا صار إلى الردّ عليهم تجوّز في الحجّة كأنّه انما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون و تشكيك الضعفة من المسلمين. وتجده يقصد في كتبه المضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث و شرّاب النّبيذ.
ويستهزئ من الحديث استهزاءً لا يخفى على أهل العلم كذكره كبد الحوت و قرن الشيطان و ذكر الحجر الأسود و أنّه كان أبيض فسوّده المشركون، وقدكان يجب أن يبيّضه المسلمون حين أسلموا و يذكر الصّحيفة الّتي كان فيها المنزل في الرضاع تحت سرير عائشة فأكلتها الشاة.
وهو مع هذا من أكذب الاُمّة و أوضعهم للحديث و أنصرهم للباطل»(2).
وقال المسعودي في «مروج الذّهب» عند ذكر الدّولة العبّاسية: «وقد صنّف الجاحظ كتاباً استقصى فيه الحجاج عند نفسه، و أيّده بالبراهين وعضده بالأدلّة فيما تصوّره من عقله و ترجمه بكتاب «العثمانيّة» يحلّ فيه عند نفسه فضائل عليّ ـ عليه السلام ـ ومناقبه، ويحتجّ فيه لغيره طلباً لاماتة الحقّ و مضادّة لأهله والله متمّ نوره ولو كره الكافرون .
   ثمّ لم يرض بهذا الكتاب المترجم بكتاب «العثمانيّة» حتّى أعقبه بتصنيف كتاب آخر في إمامة المروانيّة و أقوال شيعتهم، و رأيته مترجماً بكتاب إمامة أمير المؤمنين معاوية في الانتصار له من عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وشيعته الرافضة، يذكر فيه رجال المروانيّة و يؤيّد فيه إمامة بني اُميّة و غيرهم.
   ثمّ صنّف كتاباً آخر ترجمه بكتاب «مسائل العثمانيّة» يذكر فيه ما فاته ذكره و نقضه عند نفسه من فضائل أمير المؤمنين عليّ ـ عليه السلام ـ ومناقبه فيما ذكرنا. وقد نقضت عليه ما ذكرنا من كتبه لكتاب العثمانيّة و غيره.
   وقد نقضها جماعة من متكلّمي الشيعة كأبي عيسى الورّاق والحسن بن موسى النّخعي(1) و غيرهما من الشيعة ممّن ذكر ذلك في كتبه في الإمامة مجتمعة و متفرّقة»(2).
   ومن أراد أن يقف على ضعف الرجل في مجال العفاف والورع فعليه أن يرجع إلى ما نقله عنه ابن خلّكان في «وفيات الأعيان»(3).
ترجمه القاضي في «فضل الاعتزال» وقال: «كان عالماً فاضلاً من أصحاب جعفر(4) وله كتب كثيرة في النقوض على ابن الراوندي و غيره. وهو اُستاذ أبي القاسم البلخي رحمه الله ـ وذكر أنّه لمّا أراد العود إلى خراسان من عنده أراد أن يجعل طريقه على أبي عليّ (الجبّائي) فسأله أبو الحسين بحقّ الصحبة أن لا يفعل ذلك، لأنّه خاف أن ينسب إلى أبي عليّ وهو من أحفظ الناس باختلاف المعتزلة في الكلام و أعرفهم بأقاويلهم.
وقدكان الشيخ أبو القاسم يكاتبه بعد العود من عنده حالاً بعد حال فيعرف من جهته ما خفى عليه»(1).
ومن أشهر كتبه: «الانتصار» ردّ فيه على كتاب «فضيحة المعتزلة» لابن الراوندي وطبع بالقاهرة ـ 1925 م.
وسأل أبو العبّاس الحلبي أبا الحسين الخيّاط فقال: «أخبرني عن إبليس هل أراد أن يكفر فرعون؟ قال: نعم، قال الحلبي: فقد غلب إبليس إرادة الله؟ قال أبو الحسين: هذا لا يجب فإنّ الله تعالى قال: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالفْحْشَاءِ وَ اللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً) وهذا لا يوجب أن يكون أمر إبليس غلب أمر الله، فكذلك الإرادة و ذلك لأنّ الله تعالى لو أراد أن يؤمن فرعون كرهاً لآمن(2).
وبعبارة واضحة ، إنّ إرادة كلّ منهما (الله سبحانه و إبليس المطرود) ليست إرادة تكوينيّة قاهرة سالبة للاختيار، بل إرادة أشبه بإرادة تشريعيّة يتراءى أنّها تعلّقت بفعل الغير، وهو مختار في فعله و عمله و تطبيقه على كلّ من الطّلبين، فليس في موافقته أو مخالفته أيّ غلبة من المريدين على الآخر. نعم لو كانت إرادة كلّ منهما إرادة تكوينيّة تعلّقت واحدة بإيمان فرعون والاُخرى بكفره فكفر ولم يؤمن لزمت غلبة إرادة إبليس على إرادة الله تعالى.
وسئل عن أفضل الصّحابة فقال: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ عليه السلامـ لأنّ الخصال الّتي فضّل الناس بها متفرّقة في الناس وهي مجتمعة فيه، وعدّ الفضائل فقيل فما منع الناس من العقد له بالإمامة؟ فقال: هذا باب لا علم لي به إلاّ بما فعل الناس وتسليمه الأمر على ما أمضاه عليه الصّحابة، لأنّي لمّا وجدت الناس قد عملوا ولم أره أنكر ذلك ولا خالف ، علمت صحّة ما فعلوا»(1).
يلاحظ عليه: إذا أثبت كونه أفضل الصحابة، فتقدّم المفضول على الفاضل قبيح عقلاً، وبه ردّ سبحانه اعتراض بني إسرائيل على جعل طالوت ملكاً. قال سبحانه: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَ زَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَ الجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَ اللّهُ وَاسِعٌ عَليمٌ) (البقرة/247).
وأمّا تسليم الإمام لعمل الصّحابة فهو غير صحيح، فقد اعترض على عملهم مرّة بعد مرّة و يكفي في ذلك خطبه وقصار حكمه وما نقله عنه المؤرّخون(2).
هذا و أشباهه قابل للاغماض، وإنّما الكلام فيما نسب إلى الشيعة من النسب المفتعلة والأكاذيب الشائنة و إليك نماذج من قذائفه و طامّاته في كتاب «الانتصار»:
الرافضة تعتقد أنّ ربّها ذو هيئة و صورة يتحرّك ويسكن و يزول و ينتقل، وأنّه كان غير عالم فعلم...إلى أن قال: هذا توحيد الرافضة بأسرها إلاّ نفراً منهم يسيراً صحبوا المعتزلة و اعتقدوا التوحيد، فنفتهم الرافضة عنهم و تبرّأت منهم. فأمّا جملتهم و مشايخهم مثل هشام بن سالم، وشيطان الطاق، وعليّ بن ميثم، وهشام بن الحكم بن منصور، والسكاك فقولهم ما حكيت عنهم.
فهل على وجه الأرض رافضي إلاّ وهو يقول: إنّ لله صورة ، ويروى في ذلك الروايات و يحتجّ فيه بالأحاديث عن أئمّتهم، إلاّ من صحب المعتزلة منهم قديماً، فقال بالتوحيد فنفته الرافضة عنها ولم تقربه.
يرون أي الرافضة أن يطأ المرأة الواحدة في اليوم الواحد مائة رجل من غير استبراء ولا قضاء عدّة وهذا خلاف ما عليه اُمّة محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم (1).
نحن لا نعلّق على تلك الأساطير شيئاً و إنّما نمرّ عليها كراماً.
عبدالله بن أحمد بن محمود أبو القاسم البلخي. قال الخطيب: من متكلّمي المعتزلة البغداديين، صنّف في الكلام كتباً كثيرة و أقام ببغداد مدّة طويلة و انتشرت بها كتبه، ثمّ عاد إلى بلخ فأقام بها إلى حين وفاته. أخبرني القاضي أبو عبدالله الصيمري، (حدّثنا) أبو عبدالله محمّد بن عمران المرزباني، قال: كانت بيننا وبين أبي القاسم البلخي صداقة قديمة وكيدة وكان إذا ورد مدينة السلام قصد أبي وكثر عنده، وإذا رجع إلى بلده لم تنقطع كتبه عنّا، وتوفّي أبو القاسم ببلخ في أوّل شعبان سنة تسع عشرة وثلاثمائة»(2).
وقال ابن خلّكان: «العالم المشهور كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم «الكعبيّة» وهو صاحب مقالات، ومن مقالته: أنّ الله سبحانه وتعالى ليست له إرادة، وأنّ جميع أفعاله واقعة منه بغير إرادة ولا مشيئة منه لها، وكان من كبار المتكلّمين، وله اختيارات في علم الكلام، توفّي مستهلّ شعبان سنة سبع عشرة و ثلاثمائة. والكعبي نسبة إلى بني كعب، والبلخي نسبة إلى بلخ إحدى مدن خراسان»(3).
وقد خفي على الخطيب وابن خلّكان ما يهدف إليه الكعبي من نفي الإرادة والمشيئة عنه سبحانه، وقد اختار من أنظاره تلك النظريّة للازدراء عليه، ولكنّهما غفلا عن أنّ الكعبي لا يهدف إلى نفي الإرادة عن الله سبحانه حتّى يعرّفه كالفواعل الطبيعية، بل له هناك هدف سام لا يقف عليه إلاّ العارف بالاُصول الكلاميّة، وهو أنّ الارادة أو المشيئة حسب طبعها من الأمور الحديثة الجديدة المسبوقة بالعدم فلا تتصوّر مثل هذه الإرادة لله، أي الارادة الحادثة القائمة بذاته.
وبعبارة واضحة: إنّ حقيقة الارادة تلازم التجدّد والحدوث والتجزي والتقضي، ومثل ذلك لا يليق بساحته سبحانه. فلأجل ذلك يرى الكعبي تنزيهه سبحانه عن وصمة الحدوث والتجدّد. ومع ذلك لا يسلب عنه ما يعدّ كمالاً للإرادة، فإنّ الإرادة من الصفات العالية الكماليّة بما أنّها رمز للاختيار، وآية الحرّيّة، وهذا غير منفيّ عن الله سبحانه عند البلخي. ويدلّ على ذلك ما نقله ابن شاكر الكتبي في «عيون التواريخ» ما هذا لفظه، قال: «كان الكعبي تلميذ أبي الحسين الخيّاط وقد وافقه في اعتقاداته جميعاً، وانفرد عنه بمسائل. منها قوله: إنّ إرادة الرّبّ تعالى ليست قائمة بذاته، ولا هو يريد إرادته و (لا) إرادته حادثة في محلّ، بل إذا أطلق عليه: إنّه يريد، فمعناه أنّه عالم قادر غير مكره في فعله ولا كاره. وإذا قيل: إنّه مريد لأفعاله، فالمراد أنّه خالق لها على وفق علمه، وإذا قيل إنّه مريد لأفعال عباده، فالمراد أنّه راض بما أمر به»(1).
قال ابن حجر في «لسان الميزان»: «عبدالله بن أحمد بن محمود البلخي أبو القاسم الكعبي من كبار المعتزلة وله تصانيف في الطّعن على المحدِّثين تدلّ على كثرة اطّلاعه وتعصّبه»(2).
غير أنّ أكثر هذه الكتب قد بطش بها الزمان و أضاعها كما أضاع أكثر كتب المعتزلة وقد استقصى فؤاد سيّد في مقدّمته على كتاب «ذكر المعتزلة» لأبي القاسم باب ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين، لأبي القاسم البلخي، المقدمة ص 44، نقلاً عن عيون التواريخ ج 7، ص 106 مخطوطة دار الكتب.
البلخي أسماء كتبه و أنهاها إلى ستّة و أربعين كتاباً.
 قال النّجاشي في ترجمة محمّد بن عبدالرحمان بن قبة: «وأخذ عنه ابن بطّة و ذكره في فهرسه وقال: وسمعت من محمّد بن عبدالرحمان بن قبة، له كتاب الانصاف في الإمامة وكتاب المستثبت نقض كتاب أبي القاسم البلخي» ثمّ قال:«سمعت أبا الحسين المهلوس العلوي الموسوي ـ رضي الله عنه ـ يقول في مجلس الرّضي أبي الحسن محمّد بن الحسين بن موسى و هناك شيخنا أبو عبدالله محمّد بن محمّد بن النعمان ـ رحمهم الله أجمعين ـ: سمعت أبا الحسين السوسنجردي ـ رحمه الله ـ وكان من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلّمين وله كتاب في الإمامة معروف به وكان قد حجّ على قدميه خمسين حجّة-يقول: مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ بعد زيارتي الرضا ـ عليه السلام ـ بطوس فسلّمت عليه وكان عارفاً، ومعي كتاب أبي جعفر ابن قبة في الإمامة المعروف بالانصاف، فوقف عليه ونقضه بـ «المسترشد في الإمامة» فعدت إلى الري، فدفعت الكتاب إلى ابن قبة فنقضه بــ«المستثبت في الإمامة» فحملته إلى أبي القاسم فنقضه بـ«نقض المستثبت» فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قدمات-رحمه الله-»(1).
حكى في كتابه «مقالات أبي القاسم» أنّه وصل إليه رجل من السوفسطائية راكباً على بغل، فدخل عليه فجعل ينكر الضّروريات و يلحقها بالخيالات، فلمّا لم يتمكّن من حجّة يقطعه قام من المجلس موهماً أنّه قام في بعض حوائجه، فأخذ البغل و ذهب به إلى مكان آخر ثمّ رجع لتمام الحديث، فلمّا نهض السوفسطائي للذهاب ولم يكن قد انقطع بحجّة عنده طلب البغل حيث تركه فلم يجده، فرجع إلى أبي القاسم وقال: إنّي لم أجد البغل، فقال أبوالقاسم: لعلّك تركته في غير هذا الموضع الّذي طلبته فيه، وخيِّل لك أنّك وضعته في غيره، بل لعلّك لم تأت راكباً على بغل و إنّما خيِّل اليك تخييلاً وجاءه بأنواع من هذا الكلام، فأظن أنّه ذكر أنّ ذلك كان سبباً في رجوع السوفسطائي عن مذهبه وتوبته عنه(1).
تلك عشرة كاملة من أعلام المعتزلة و فطاحلهم. ولعلّ هذا المقدار في ترجمة أئمّتهم و مشايخهم يوقفنا على موقفهم في الفضل و الفضيلة و هذا البحث الضافي يوقفك على أنّ تدمير تلك الطائفة ـ مع ما فيها، ما فيها ـ كانت خسارة لا تجبر.
المفردات الصعبة 
  الناجر: أشدّ أشهر الصيف حرّاً.
  «سهّلت بعد ما صعبت» في طبقات المعتزلة.

التعريف بالأعلام  الذين وردت أسماؤهم في طيات البحث
يريد: جعفر بن مبشر بن أحمد بن محمد أبو محمد الثقفي المتكلم (المتوفى سنة 234) من معتزلة بغداد له ترجمة في تاريخ بغداد: ج 7، ص 162، ولسان الميزان: ج 2، ص 121.
 هو أبو الوليد، بشر بن الوليد بن خالد الكندي قاضي مدينة منصور كما عرفت. توفي سنة 238. لاحظ تاريخ بغداد: ج 7، ص 80.
 إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي، توفي 193 أو 194.


للإطلاع على الموضوع بصورة أوسع ومعرفة حياة هؤلاء الأعلام أنظر :
 1 -أمالي المرتضى .
    2 -فضل الاعتزال للقاضي .
    3-ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل .
    4- المعتزلة .
    5- البيان والتبيين  .
    6- الفهرست لابن النديم، الفن الاول من المقالة الخامسة:
    7-الفرق بين الفرق.
    8-تاريخ بغداد: ج 7،9.
    9-ميزان الاعتدال: ج 1.
    10- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
    11-المعيار والموازنة: المقدّمة ، ص 2.
    12-الخطط المقريزيّة: ج 2، ص 246.
    13-العبر في خبر من غبر: ج1، ص339.
    14-وفيات الأعيان ج 3، 5 ـ ط دار صادر.
     15-تأويل مختلف الحديث: ص 59 ـ 60.
     16-مروج الذهب: ج 3، ص 237 ـ 238 طبع دار الأندلس.
    17-المنية والأمل: تصحيح توما أرنلد، ص 49 و 50.
     18-أنظر : الامامة والسياسة، ص 11 لابن قتبية وغيرها.
    19-أنظر : الانتصار ص 8، 144، 89.
     20-لسان الميزان: ج 3 ص 252.
     21-فهرس النجاشي: الرقم 1023.




   تنقسم المعتزلة تارة بحسب الطّبقات ، و اُخرى بحسب المدارس . أمّا الأوّل : فقد قسمها القاضي عبدالجبّار (ت 415) هـ إلى طبقات عشر. ثمّ جاء بعده الحاكم(1) فأضاف عليها طبقتين فصارت اثنتي عشرة طبقة.
   وقد أدرجها ابن المرتضى في كتابه «المنية و الأمل» الّذي طبع منه هذا القسم فقط . ولأجل رفع الاشتباه في الاسم سيدعى كتاب القاضي بالطّبقات ، وعن قسم ابن المرتضى باسم كلِّ كتابه أي : المنية والأمل .
   إنّ أساس التقسيم في ترتيب الطّبقات هو التسلسل الزّمني و الترتيب التأريخي . فالأساتذة في طبقة والتلامذة في طبقة بعدها . ومن أراد الوقوف على أسمائهم وحياتـهم فعليه الرجوع إلى المصادر السابقة باضافة كتاب «ذكر المعتزلة» للكعبي . وبما أنّ الإكتفاء بذكر الأسماء وحده ، لا يفيد شيئاً ، والتّفصيل خارج عن موضوع البحث ، فلا بد للقارئ من الرجوع للكتب المذكورة و سيكتفى في هذا البحث بذكر مدارس الاعتزال و بعض الفروق الموجودة بينها .
   يؤكد مؤرخي مدارس الاعتزال أنها لا تتجاوز مدرستين : مدرسة البصرة، ومدرسة بغداد. وفي هذا القول كثير من التجاوز ، إذ يتعاملون مع منهج واصل بن عطاء ومقالاته فقط ، وهم يهملون مدرسة المعتزلة في بلاد الشام ، ومبدأ الاعتزال إذ بدأ في مدينة الرسول (ص) على يد ولدين من أولاد محمد بن علي الملقب بابن الحنفية هما عبد الله الملقب بأبي هاشم والحسن وهو شيخ غيلان الدمشقي ، ويرى هؤلاء المؤرخون أنَّ البصرة هي مهد الاعتزال ومغرسه ، وفيها برز واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، وأبو الهذيل العلاّف ، والنظّام .
   لقد تأسّست في أواخر القرن الثاني مدرسة اُخرى في عاصمة الخلافة العبّاسيّة «بغداد» ، بمهاجرة أحد خرّيجي مدرسة البصرة إليها وهو بشر بن المعتمر (ت210) هـ .فظهر بعده في بغداد رجال مفكّرون على منهج الاعتزال ، وأثار التعدّد و البعد المكاني خلافات بين خرّيجي المدرستين في كثير من المسائل الفرعيّة بعد الاتفاق على المسائل الرئيسيّة .
   ومع أن مدرسة بغداد ظهرت بعد مدرسة البصرة ومتولدة عنها إلاَّ أنَّ لكلّ من المدرستين مميّزات و مشخّصات يقف عليها من تدبّر في أفكار أصحابـها وآرائهم . ولبعض المعتزلة رسائل مخصوصة في هذا المضمار .
   لكن هل يجب البقاء أسرى لمدونة التاريخ دون أعادة رجع النظر فيها من خلال مدونة التاريخ ذاتـها وليس بتوهم تاريخ أو تلفيقه فأين يمكن وضع غيلان الدمشقي المقتول سنة 122هـ من قبل هشام بن عبد الملك هو ورفيق دربه صالح ؟ هل هما من مدرسة البصرة أو من مدرسة بغداد ؟ وإذ لا يمكن القول أنـهما من إحدى المدرستين ، ولا يقال أن الكلام هنا عن شخصين لا عن مدرسة ، فالثابت تاريخيا أنـها مدرسة من البدأ وحتى نهاية المدرسة أو ضعفها بزوال الدولة الأموية ، فمن حيث البدء ، نشأت هذه المدرسة على فكر الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ، ومن حيث المسار اتسمت بالعمل الثوري : قولا على يد غيلان ، وعملا تجلى ذلك في ثورة يزيد الناقص ـ عفوا ـ هو الكامل على ابن عمه الوليد الفاسق .        
غير أنّ الناظر فيما ينقل ابن أبي الحديد المعتزلي من مشايخه البغداديّين أنّهم يوافقون الشيعة أكثر من معتزلة البصرة. وقد ألّف الشيخ المفيد (ت 413) هـ رسالة باسم «المقنعة» في وفاق البغداديين من المعتزلة لما روى عن الأئمّة ـ عليهم السلام ـ(1).
و للتعرّف على بعض مشايخ المدرستين نأتي بهذا الجدول:
1                 - واصل بن عطاء (م 131).
2                 - عمرو بن عبيد (م 143).
3                - أبو الهذيل العلاّف (م 235).
4                - إبراهيم بن سيّار النظّام (م 231).
5                - عليّ الأسوار (المتوفّى حوالى المائتين).
6                - معمر بن عباد السلمي (م 220).
7                - عبّاد بن سليمان (م 220).
8                - هشام الفوطي (م 246).
9                - عمرو بن بحر الجاحظ (م 255).
10  - أبو يعقوب الشحّام (م 230).
11  - أبو عليّ الجبّائي (م 303).
12  - أبو هاشم الجبّائي (م 321).
13  - أبو عبدالله الحسين بن عليّ البصري (م 367).
14  أبو إسحاق بن عياش (شيخ القاضي).
15  - القاضي عبد الجبّار (م 415).
بشر بن المعتمر (م 210)، مؤسّس المدرسة.
ثمامة بن الأشرس (م 234).
جعفر بن المبشر (م 234).
جعفر بن حرب (م 236).
أحمد بن أبي دؤاد (م 240).
محمّد الاسكافي (م 240).
أبو الحسين الخيّاط (م 311).
أبوالقاسم البلخي الكعبي ( م 317).
من أراد أن يقف على بعض آرائهم الّتي يخالفون فيها مشايخهم البصريّين فعليه بمطالعة شرح النهج لابن أبي الحديد، فإنّه يعرض آراءهم في شرحه في مجالات مختلفة.

أوائل المقالات: ص 25. وهذا الكتاب غير كتابه الآخر بهذا الاسم في الفقه.


المراد منه المتكلم المعتزلي الزيدي أبو سعد المحسن بن محمد كرامة الجشمي البيهقي صاحب المؤلفات توفي مقتولاً بمكة في شهر رجب سنة 465، أو 445. وتوهمت المستشرقة سوسنه « ديفلد ملزر» أنّ المراد منه هو المحدث المشهور محمد بن عبداللّه الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك المتوفى عام 405 وهو وهم.
كذا في النسخة والصحيح: النوبختي.













نظرات في تاريخ المعتزلة
تعتبر المعتزلة أهم المدار بين المدارس الكلاميّة المختلفة ، فهي مدرسة فكريّة سياسة ، سعت لعودة الرشد للحياة الإسلامية ، بعد ظهور الملك الجبري العضوض . أقامت منهجا متكاملا ومتناسقا للتعامل مع الإسلام ومسيرة الحياة ، وإذ جعلت العقل أول الأدلة ـ والحقيقة تثبت ذلك ـ وصفت من متعصبة الفرق والمذاهب بأنها أعطت للعقل القسط الأوفر والسّهم الأكبر حتّى فيما لا سبيل له للقضاء فيه ، وللمعتزلة من نتائج الفكر والمعرفة ما شهد له التأريخ ، ودلّت عليه كتب المعتزلة و رسائلهم الباقية . وما نقله عنهم خصومهم و أعداؤهم . وباختصار، إنّه مذهب فكري كبير ، يزخر بمعارف حول الإنسان من حيث المبدأ والحياة والمعاد ، وبأنظار عقليّة أو تجريبيّة مدهشة تقرأ صحيفة الكون ، كما نبه القرآن الكريم العقول إلى ذلك قال تعالى : ((   اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ )) (العلق:1-2) .
                                                         ***
   ومن المؤسف جدّاً أنّ هوى العصبيّة المقيتة ؛ بل يد الخيانة و الجناية لعبت بكثير من مخلّفاتـهم الفكريّة ، و أطاحت بـها فأضاعتها بالحرق و المزق ، و إن كان فيما بقى ، و ما كشفت عنه بعثة وزارة المعارف المصريّة إلى اليمن و نشرتـها(1) كفاية لمن أراد التعرّف على الفكر والـمنهج كما ورد على لسان شيوخ المعتزلة  ، ثمّ دراستها ، وسيرد في نـهاية هذا البحث  قائمة الكتب الباقية أو المنشورة في هذه الآونة الأخيرة عنهم ، وبالنّظر إليها يعلم أنّ الباقي يشكل طفيفاً من الكثير المضاع ـ ومع ذلك ـ فهو يستطيع أن يرسم للقارئ  معالم هذا الفكر و المنهج بوضوح ، بحيث يغني عن الرجوع إلى كتب خصومهم و أعدائهم .
                                                     ***
   إنّ ضياع كتب المعتزلة في القرون السابقة وعدم تمكّن الباحثين عنها ، ألجأ من يريد البحث إلى غير ما كتبه المعتزلة معتمدين في كتابة عقائدهم و تحليل اُصولهم إلى الاعتماد على كتب الأشاعرة في مجال علم الكلام والملل و النحل، ومن الواضح جدّاً أنّ كثيراً من الخصوم ليسوا بمنصفين و موضوعيين وقد نسبوا إليهم ما لا يوافق الاُصول الموثوق بها(1).
إنّ الدّراسة الموضوعيّة الهادفة تكلّف الباحث الرجوع إلى الكتب المؤلفة بيد أعلام المذاهب و خبرائه المعروفين بالحذق والوثاقة، والاعتماد على كتب الخصوم خارج عن أدب الجدل و رسم التحقيق.
بيد أنّنا نرى كثيراً من الكتّاب المعاصرين يعتمدون في تحليل عقائد الطّوائف الإسلاميّة على «مقالات الإسلاميّين» للشيخ الأشعري و «الفرق بين الفرق» لعبد القادر البغدادي و «الملل و النحل» للشهرستاني، وهؤلاء كلّهم من أعلام الأشاعرة و يرجع إليهم في الوقوف على التفكير الأشعري، وأمّا في غيره فلا يكون قولهم و نقلهم حجّة في حقّهم، إلاّ إذا طابق الأصل، فإنّ الكاتب مهما يكون أميناً ـ إذا كان في موقف الجدال والنِّقاش وحاول إثبات مقاله و تدمير مقالة الخصم ـ لا يصحّ الرُّكون إلى نقله، إلاّ إذا أتى بنصّ عبارة الخصم بلا تصرّف ولا تبديل. ومن المعلوم أنّ الكتب المؤلّفة في العصور الماضية لا تسير على هذا المنهاج، كما هو واضح لمن سبر.
إنّ من الظّلم البارز الاعتماد في تحليل عقائد الطّوائف الإسلاميّة على كتب ابن حزم الأندلسي (المتوفّى عام 456 هـ) وابن خلدون المغربي (المتوفّى عام 808 هـ) وغيرهما خصوصاً فيما كتبوه حول الشّيعة لبعدهم عن البيئة الشيعيّة و مؤلّفاتهم، ولذلك ترى فيها الخبط والخطاء...وهذا مبلغ علم الشهرستاني و اطّلاعه عنهم حيث يذكر الأئمّة الاثني عشر ويقول: إنّ عليّ بن محمّد النقي مشهده بقم(2) ويكفيك فيما ذكرناه ما قاله أحد معاصريه (أبو محمّد الخوارزمي) قال بعد ذكر مشايخه في الفقه واُصوله والحديث: «ولولا تخبّطه في الاعتقاد وميله إلى الالحاد لكان هو الإمام، وكثيراً ما كنّا نتعجّب في وفور فضله وكمال عقله و كيف مال إلى شيء لا أصل له و اختار أمراً لا دليل عليه لا معقولاً ولا منقولاً ونعوذ بالله من الخذلان والحرمان من نور الإيمان»(1).
اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال وما فيه من الخطوط والاُصول في الكون وحياة الإنسان و اختياره و حرّيتة، ولقد أعجبتهم فكرتهم في أفعال العباد وصار ذلك سبباً لاهتمام الجدد من أهل السنّة و بالأخص المصريّين منهم إلى دراسة مذهبهم و نشر كتبهم و تقدير فكرتهم و الدّفاع عنهم قدر الامكان وردّ الاعتبار إليهم.
ولأجل ذلك نشرت في العهد القريب كتب تتناول البحث عن ذلك المذهب مثل:
تأريخ الجهمية والمعتزلة: لجمال الدين القاسمي الدمشقي، طبع في القاهرة عام 1331 هـ.
  المعتزلة: تأليف زهدي حسن جار اللّهطبع في القاهرة عام 1366 هـ، وهي رسالة تبحث في تأريخ المعتزلة و عقائدهم و أثرهم في تطوّر الفكر الإسلامي. قدّمها مؤلّفها إلى دائرة التأريخ العربي في كلّية العلوم والآداب بجامعة بيروت الأمريكيّة. ونال عليه رتبة اُستاذ في العلوم وله في الكتاب مواقف موضوعيّة.
 فجر الإسلام: لأحمد أمين المصري، الفصل الرابع، ص 283 ـ 303.
ضحى الإسلام: له أيضاً، الفصل الأوّل ص 21 ـ 107.
 تأريخ المذاهب الإسلاميّة: تأليف محمّد أبو زهرة فصل القدريّة، ص123 ـ 179.


 
معجم البلدان: ج 3 ص 377 ط بيروت دار احياء التراث العربي مادة شهرستان.


  فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة: تحقيق فؤاد السيّد، نشرته الدار التونسيّة للنشر، عام 1406 هـ، الطبعة الثّانية، وهو يضمّ كتباً ثلاثة لأئمّة الاعتزال: أبي القاسم البلخي، والقاضي عبد الجبّار، و الحاكم الجشمي، والكتاب مزدان بتحقيقات نافعة.
وهذه العناية الكبيرة المؤكّدة من أبناء الأشاعرة لبيان تأريخ المعتزلة و عقائدهم وإظهار الأسف و الأسى لذهاب ثروتهم العلميّة، و إنشاء بعثة علميّة لأخذ الصّور من مخلّفاتهم الخطّية المبعثرة في بلاد اليمن والقيام بنشرها، عمل مبارك وجهد مقدّر، لكن أثاره أبناء الاستشراق في نفوس هؤلاء. هذا هو (آلفرد جيوم) اُستاذ الدراسات الشّرقية في جامعة لندن يقول :
«إنّ ما انتهى إلينا من كتابات رجال الاعتزال قليل جدّاً إلى حدّ أنّنا مضطرّون إلى أن نعتمد على ما يقوله مخالفوهم عنهم، وقد كانوا يحملون لهم ذكريات مريرة لما قام به المعتزلة من أعمال تعسّفيّة لذلك، فإنّ أملنا لكبير، إذا كانت مكتبات الشيعة في اليمن أو في غير اليمن تحوي مخطوطات من أصل معتزلي أن نقوم بنشرها. هذا، وإنّ اُولئك الّذين يرغبون في الوقوف على نتاج العقل العربي في عصور الخلافة الذّهبية، يحسنون صنعاً إذا أقدموا على درس هذه الرسالة اللمّاعة في تأريخ حركة عظيمة في حركات الفكر العربي»(1).
وهذا «شتيز» المستشرق وصفهم بأنّهم المفكِّرون الأحرار في الاسلام، وألّف كتاباً بهذا الاسم.
ووصفهم «آدم ميت» و«هاملتون» بأنّهم دعاة الحريّة الفكرية والاستنارة (2).
وقال «جولد تسيهر»: «إنّ المعتزلة وسّعوا معين المعرفة الدينية بأن أدخلوا فيها عنصراً مهمّاً آخر قيّماً وهو العقل الّذي كان حتّى ذلك الحين مبعداً بشدّة عن هذه الناحية»(1).


 
من مقدمة كتاب المعتزلة، تأليف زهدي حسن جار الله، قدّم له «آلفرد جيوم» اُستاذ الدراسات الشرقية في جامعة لندن. عام 1947 م = 1366 هـ.
 أدب المعتزلة: ص 172.



وربّما يرد على الأخير بأنّه تجاسر على قلب الحقائق مسقطاً الواقع الّذي يثبت اجتهاد الرّسول و الصّحابة والتابعين... وكتب السنّة و السيرة والتّاريخ والفقه والخلاف والمقارنات الفقهيّة حافلة بما يؤيِّد اجتهادهم وتعويلهم على العقل.
يلاحظ عليه: أنّ كلام هذا الرادّ أقرب إلى قلب الواقع ممّا ذكره «جولد تسيهر» ذلك المستشرق الحاقد على الإسلام و نبيّه، وذلك لأنّ أهل الحديث والحنابلة ينكرون الحسن والقبح العقليّين، وإنكار ذلك مساوق لإنكارّ كثير من المعارف الدينيّة، والمعارف الدينيّة عندهم قائمة على السنّة فقط، و أحيانا على الكتاب. وأمّا العقل فهو محكوم عندهم بالاعدام، حتّى أنّ طريق الإمام أبي الحسن الأشعري غير مقبول لدى أهل الحديث والحنابلة ولأجل ذلك ما ذكروه في طبقاتهم، قائلين بأنّ الشيخ الأشعري يستدلّ على العقائد، مكان أن يعتمد فيها على الحديث والسنّة.
وأمّا الاعتماد على العقل في الفقه، فلو اُريد منه القياس والاستحسان فهو من قبيل العقل الظنّي الذي لا يغني من الحقّ شيئاً، و إن اُريد منه الحكم القطعي من العقل، فهو مبنيّ على التّحسين والتقبيح العقليين، وأهل الحديث والحنابلة حتّى الأشاعرة ينكرون إمكان هذا الادراك العقلي.
هذا وللمستشرقين كلمات اُخر في تحسين منهج الاعتزال ضربنا عنها صفحاً.
إنّ أحمد أمين (الكاتب الشهير المصري) مع أنّه لم يقف من كتب المعتزلة إلاّ على الأقل القليل كالانتصار لأبي الحسين الخيّاط (م 311)، والكشّاف للزمخشري(م538)، وبعض كتب الجاحظ (م 255) وقد اعتمد في نقل عقائد المعتزلة


 
1 . المعتزلة بين العمل والفكر:ص 103، تأليف: علي الشابي، أبو لبابة حسن، عبد المجيد النجار. طبع الشركة التونسية.


على كتب الأشاعرة كمقالات الإسلاميين للشيخ الأشعري (م 324)، ونهاية الاقدام للشهرستاني (م 548)، والاقتصاد للغزالي (م 505)، والمواقف للعضدي (م 775) إلى غير ذلك، وهؤلاء كلّهم أعداء المعتزلة ولا يستطيعون تقرير مواقف خصومهم في المسائل مجرّدين عن كلّ انحياز، ـ مع أنّه لم يقف ـ تأثّر كثيراً بمنهج الاعتزال تبعاً لأساتذته الغربيّين، ولولاهم لما خرج الاُستاذ أحمد أمين عمّا حاكت عليه البيئة المصريّة الأشعريّة من الشباك الفكري قدر أنملة، ولا بأس بنقل جمل من إطرائه للمعتزلة في فصول مختلفة.
 ـ يقول حول توحيد المعتزلة و تنزيههم: «وقد كانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السموّ والرفعة، فطبّقوا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) أبدع تطبيق، وفصّلوه خير تفصيل وحاربوا الأنظار الوضعيّة من مثل أنظار الّذين جعلوا الله تعالى جسماً»(1).
ـ يقول حول نظريّتهم في حرّية العباد: «وقالت المعـتزلة بحرّية الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته حتّى جعلوه كالريشة في مهبّ الريح أو كالخشـبة في إليمّ. وعندي أنّ الخطأ في القول بسلطان العقل و حرّية الإرادة والغلوّ فيهما خير من الغلوّ في أضدادهما، وفي رأيي أنّه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى إليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التأريخ غير موقفهم الحالي وقد أعجزهم التسليم وشلّهم الجبر وقعد بهم التّواكل»(2).
3 ـ يقول في حقّ إبراهيم بن سيّار المعروف بالنظّام، الشخصيّة الرابعة بين المعتزلة بعد واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلاف، اُستاذ الجاحظ وقد توفّي عام 231: «أمّا ناحيته العقليّة ففيها الركنان الأساسيّان اللّذان سبّبا النهضة الحديثة في أروبا وهما الشكّ والتجربة، وأمّا الشكّ فقد كان يعتبره النظّام أساساً للبحث فكان يقول: الشاكّ أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قطّ حتّى صار فيه شكّ، ولم


 
. ضحى الاسلام: ج 3، ص 68.
نفس المصدر : ج 3، ص 70.


ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتّى يكون بينهما حال شك.
وأمّا التجربة فقد استخدمها كما يستخدمها الطبيعي أو الكيمياوي اليوم في معمله»(1).
وقال أحمد أمين في مقال خاصّ تحت عنوان «المعتزلة والمحدثون»:
كان للمعتزلة منهج خاصّ أشبه ما يكون بمنهج من يسمّيهم الإفرنج العقليين، عمادهم الشكّ أوّلاً والتجربة ثانياً، والحكم أخيراً. وللجاحظ فى كتابه «الحيوان» مبحث طريف عن الشكّ، وكانوا وفق هذا المنهج لا يقبلون الحديث إلاّ إذا أقرّه العقل، ويؤوّلون الآيات حسب ما يتّفق والعقل كما فعل الزمخشري في الكشّاف، ولا يؤمنون برؤية الإنسان للجنّ لأنّ الله تعالى يقول: (إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) ويهزأون بمن يخاف من الجنّ، ولا يؤمنون بالخرافات والأوهام، و يؤسّسون دعوتهم إلى الإسلام حسب مقتضيات العقل و فلسفة اليونان، ولهم في ذلك باع طويل، ولا يؤمنون بأقوال أرسطو لأنّه أرسطو، بل نرى في « الحيوان » أنّ الجاحظ يفضّل أحياناً قول أعرابيّ جاهلي بدويّ على قول أرسطو الفيلسوف الكبير.
هكذا كان منهجهم، وهو منهج لا يناسب إلاّ الخاصّة، ولذلك لم يعتنق الاعتزال إلاّ خاصّة المثقّفين، أمّا العوام فكانوا يكرهونه.
ويقابل هذا المنهج منهج المحدِّثين، وهو منهج يعتمد على الرواية لا على الدراية، ولذلك كان نقدهم للحديث نقد سند لا متن، ومتى صحّ السند صحّ المتن ولو خالف العقل، وقلّ أن نجد حديثاً نُقد من ناحية المتن عندهم، و إذا عُرض عليهم أمر رجعوا إلى الحديث ولو كان ظاهره لا يتّفق والعقل، كما يتجلّى ذلك في مذهب الحنابلة.
وكان من سوء الحظّ أن تدخل المعتزلة في السياسة ولم يقتصروا على


 
ضحى الاسلام: ج 3، ص 112.


الدين، والسياسة دائماً شائكة، فنصرهم على ذلك المأمون والواثق والمعتصم، وامتحنوا النّاس وأكرهوهم على الاعتزال، فكرههم العامّة واستبطلوا الإمام ابن حنبل الّذي وقف في وجههم، فلمّا جاء المتوكّل انتصر للرأي العام ضدّهم، وانتصر للإمام أحمد بن حنبل على الجاحظ وابن أبي دوآد وأمثالهما، و نكّل بهم تنكيلاً شديداً، فبعد أن كان يتظاهر الرجل بأنّه معتزلي، كان الرجل يعتزل ويختفي حتّى عدّ جريئاً كلّ الجراءة الزمخشري الّذي كان يتظاهر بالاعتزال و يؤلّف فيه، ولم يكن له كلّ هذا الفضل، لأنّه أتى بعد هدوء الفورة الّتي حدثت ضدّ الاعتزال.
فلنتصوّر الآن ماذا كان لو سار المسلمون على منهج الاعتزال إلى اليوم؟. أظنّ أنّ مذهب الشكّ و التجربة وإليقين بعدهما كان يكون قد ربى و ترعرع و نضج في غضون الألف سنة الّتي مرّت عليه، وكنّا نفضّل الأروبيّين في فخفختهم و طنطنتهم بالشكّ و التجربة الّتي ينسبانها إلى «بيكن» مع أنّه لم يعمل أكثر من بسط مذهب المعتزلة. وكان هذا الشكّ و هذه التّجربة مما يؤدّي حتماً إلى الاختراع و بدل تأخّر الاختراع إلى ما بعد بيكن وديكارت، كان يتقدم مئات من السنين، وكان العالم قد وصل إلى ما لم يصل إليه إلى اليوم، وكان وصوله على يد المسلمين لا على يد الغربيّين، وكان لا يموت خلق الابتكار في الشرق و يقتصر على الغرب.
فقد عهدنا المسلمين بفضل منهج المحدِّثين يقتصرون على جمع متفرّق أو تفريق مجتمع، وقلّ أن نجد مبتكراً كابن خلدون الّذي كانت له مدرسة خاصّة، تلاميذها الغربيّون لا الشرقيون.
فالحقّ أن خسارة المسلمين بإزالة المعتزلة من الوجود كانت خسارة كبرى لاتعوّض.
ثمّ بدأ المسلمون ينهجون منهج الحضارة الغربيّة تقليداً من الخارج لا بعثاً من الداخل، وشتّان ما بينهما، فالتقليد للخارج بثّ فيهم ما يسمّيه علماء النفس مركب النقص، فهم يرون أنّهم عالة على الغربيّين في منهجهم، ولو كان من أنفسهم لاعتزّوا به


وافتخروا، ولكن ما قُدّر لا بدّ أن يكون، ولله في خلقه شؤون»(1).
هذا بعض ما تأثّر به الاُستاذ المصري بمنهج الاعتزال فأطلق قلمه بمدحهم، ولكن لـمّا وقف في غضون التأريخ على أنّ المعتزلة تربّت في أحضان البيت العلوي و أنّ واصل بن عطاء مؤسّس المنهج تتلمذ على أبي هاشم بن محمّد الحنفيّة، وأنّهم أخذوا التوحيد والعدل من الاُصول الخمسة من خطب الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ثارت ثورته وثقل عليه البحث لما يكنّه في نفسه من عداء وحقد للشيعة وأئمّتهم فانبرى لتحريف التأريخ و إسدال الستر على الحقيقة و إنكار كون الأصل لبعض اُصول المعتزلة هو البيت العلوي. ولنا معه في ذلك الفصل بحث ضاف فانتظر. هذا والكلام حول هذه الطائفة يأتي في فصول:


 
رسالة الإسلام التي تصدرها «دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة» بالقاهرة: العدد الثالث من السنة الثالثة.

لقد شغل بال الباحثين من المسلمين و المستشرقين سبب تسمية هذه الطّائفة بالمعتزلة، فاختار كلّ مذهباً، ونحن نأتي بجميع الآراء أو أكثرها على وجه الاجمال، مع التّحليل والقضاء بينها.
قال أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث في كتابه «فرق الشيعة» عندالبحث عن الأحداث الواقعة بعد قتل عثمان: «فلمّا قُتِل بايع الناس عليّاً فسمّوا الجماعة، ثمّ افترقوا بعد ذلك و صاروا ثلاث فرق: فرقة أقامت على ولايته ـ عليه السلام ـ، وفرقة خالفت عليّاً وهم طلحة والزبير و عائشة، وفرقة اعتزلت مع سعد بن مالك وهو سعدبن أبي وقّاص، وعبدالله بن عمر بن الخطّاب، ومحمّد بن مسلمة الأنصاري، واُسامة بن زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم فإنّ هؤلاء اعتزلوا عن علي ـعليه السلامـ وامتنعوا عن محاربته والمحاربة معه بعد دخولهم في بيعته والرضا به. فسمّوا المعتزلة، وصاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد، وقالوا: لا يحلّ قتال عليّ ولاالقتال معه.
وذكر بعض أهل العلم أنّ الأحنف بن قيس التميمي اعتزل بعد ذلك في خاصّة قومه من بني تميم لا على التديّن بالاعتزال. ولكن على طلب السلامة في القتل و ذهاب المال وقال لقومه: اعتزلوا الفتنة أصلح لكم».
وذكر(1) نصر بن مزاحم المنقري أنّ المغيرة بن شعبة كان مقيماً بالطّائف لم يشهد صفّين. فقال معاوية: يا مغيرة: ما ترى؟ قال: يا معاوية لو وسعني أن أنصرك لنصرتك، ولكن عليّ أن آتيك بأمر الرجلين (أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص) فركب حتّى أتى دومة الجندل، فدخل على أبي موسى كأنّه زائر له، فقال: يا أبا موسى! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر و كره الدماء؟ قال: اُولئك خيار الناس خفّت ظهورهم من دمائهم و خمصت بطونهم من أموالهم.
ثمّ أتى عمراً فقال: يا أبا عبدالله ! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟
فقال: اُولئك شرّ الناس لم يعرفوا حقّاً ولم ينكروا باطلا(2).
غير أنّ شيوخ المعتزلة يردّون هذه الرواية ولا يقيمون لها وزناً. بل يقول البلخي: «ومن الناس من يقول سمّوا معتزلة لاعتزالهم عليّ بن أبي طالب في حروبه، وليس كذلك، لأنّ جمهور المعتزلة بل أكثرهم إلاّ القليل الشاذّ منهم يقولون إنّ عليّاً ـ عليه السلام ـ كان على صواب ، وإنّ من حاربه فهو ضالّ و تبرّأوا ممّن لم يتب عن محاربته ولا يتولّون أحداً ممّن حاربه إلاّ من صحّت عندهم توبته منهم ، و من كان بهذه الصفة فليس بمعتزل عنه ـ عليه السلام ـ ولا يجوز أن يسمّى بهذا الاسم»(3).

 
1 . أصدرت دار الكتب المصرية عام 1967 قائمة المخطوطات العربية المصوّرة بالميكروفيلم من الجمهورية العربية اليمنية. كما قامت بنشر كتب القاضي عبد الجبار رئيس الاعتزال في اوائل القرن الخامس فطبعت منها كتاب شرح الاُصول الخمسة وكتاب المغني له أيضاً في أربعة عشر جزءاً وغيرهما.


كتابة عقائدهم و تحليل اُصولهم إلى الاعتماد على كتب الأشاعرة في مجال علم الكلام والملل و النحل، ومن الواضح جدّاً أنّ كثيراً من الخصوم ليسوا بمنصفين و موضوعيين وقد نسبوا إليهم ما لا يوافق الاُصول الموثوق بها(1).
إنّ الدّراسة الموضوعيّة الهادفة تكلّف الباحث الرجوع إلى الكتب المؤلفة بيد أعلام المذاهب و خبرائه المعروفين بالحذق والوثاقة، والاعتماد على كتب الخصوم خارج عن أدب الجدل و رسم التحقيق.
بيد أنّنا نرى كثيراً من الكتّاب المعاصرين يعتمدون في تحليل عقائد الطّوائف الإسلاميّة على «مقالات الإسلاميّين» للشيخ الأشعري و «الفرق بين الفرق» لعبد القادر البغدادي و «الملل و النحل» للشهرستاني، وهؤلاء كلّهم من أعلام الأشاعرة و يرجع إليهم في الوقوف على التفكير الأشعري، وأمّا في غيره فلا يكون قولهم و نقلهم حجّة في حقّهم، إلاّ إذا طابق الأصل، فإنّ الكاتب مهما يكون أميناً ـ إذا كان في موقف الجدال والنِّقاش وحاول إثبات مقاله و تدمير مقالة الخصم ـ لا يصحّ الرُّكون إلى نقله، إلاّ إذا أتى بنصّ عبارة الخصم بلا تصرّف ولا تبديل. ومن المعلوم أنّ الكتب المؤلّفة في العصور الماضية لا تسير على هذا المنهاج، كما هو واضح لمن سبر.
إنّ من الظّلم البارز الاعتماد في تحليل عقائد الطّوائف الإسلاميّة على كتب ابن حزم الأندلسي (المتوفّى عام 456 هـ) وابن خلدون المغربي (المتوفّى عام 808 هـ) وغيرهما خصوصاً فيما كتبوه حول الشّيعة لبعدهم عن البيئة الشيعيّة و مؤلّفاتهم، ولذلك ترى فيها الخبط والخطاء...وهذا مبلغ علم الشهرستاني و اطّلاعه عنهم حيث يذكر الأئمّة الاثني عشر ويقول: إنّ عليّ بن محمّد النقي مشهده بقم(2) ويكفيك فيما ذكرناه ما قاله أحد معاصريه (أبو محمّد الخوارزمي) قال بعد ذكر مشايخه في الفقه


 
مثلاً نسب إليهم أنّهم لا يقولون بعذاب القبر مع أنّ القاضي في شرح الاُصول الخمسة ص 732 يقول: إنّ المعتزلة تقول بعذاب القبر ولا تنكره قال: وأمّا فائدة عذاب القبر وكونه مصلحة للمكلّفين فإنّهم متى علموا أنّهم إن أقدموا على المقبحات وأخلوا بالواجبات عذِّبوا في القبر... وسيأتي البحث عنه في محلّه.
الملل والنحل: ج 1 ص 169.


واُصوله والحديث: «ولولا تخبّطه في الاعتقاد وميله إلى الالحاد لكان هو الإمام، وكثيراً ما كنّا نتعجّب في وفور فضله وكمال عقله و كيف مال إلى شيء لا أصل له و اختار أمراً لا دليل عليه لا معقولاً ولا منقولاً ونعوذ بالله من الخذلان والحرمان من نور الإيمان»(1).

اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال وما فيه من الخطوط والاُصول في الكون وحياة الإنسان و اختياره و حرّيتة، ولقد أعجبتهم فكرتهم في أفعال العباد وصار ذلك سبباً لاهتمام الجدد من أهل السنّة و بالأخص المصريّين منهم إلى دراسة مذهبهم و نشر كتبهم و تقدير فكرتهم و الدّفاع عنهم قدر الامكان وردّ الاعتبار إليهم.
ولأجل ذلك نشرت في العهد القريب كتب تتناول البحث عن ذلك المذهب مثل:
 تأريخ الجهمية والمعتزلة: لجمال الدين القاسمي الدمشقي، طبع في القاهرة عام 1331 هـ.
المعتزلة: تأليف زهدي حسن جار اللّه طبع في القاهرة عام 1366 هـ، وهي رسالة تبحث في تأريخ المعتزلة و عقائدهم و أثرهم في تطوّر الفكر الإسلامي. قدّمها مؤلّفها إلى دائرة التأريخ العربي في كلّية العلوم والآداب بجامعة بيروت الأمريكيّة. ونال عليه رتبة اُستاذ في العلوم وله في الكتاب مواقف موضوعيّة.
 فجر الإسلام: لأحمد أمين المصري، الفصل الرابع، ص 283 ـ 303.
  ضحى الإسلام: له أيضاً، الفصل الأوّل ص 21 ـ 107.
تأريخ المذاهب الإسلاميّة: تأليف محمّد أبو زهرة فصل القدريّة، ص123 ـ 179.

معجم البلدان: ج 3 ص 377 ط بيروت دار احياء التراث العربي مادة شهرستان.


  فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة: تحقيق فؤاد السيّد، نشرته الدار التونسيّة للنشر، عام 1406 هـ، الطبعة الثّانية، وهو يضمّ كتباً ثلاثة لأئمّة الاعتزال: أبي القاسم البلخي، والقاضي عبد الجبّار، و الحاكم الجشمي، والكتاب مزدان بتحقيقات نافعة.
وهذه العناية الكبيرة المؤكّدة من أبناء الأشاعرة لبيان تأريخ المعتزلة و عقائدهم وإظهار الأسف و الأسى لذهاب ثروتهم العلميّة، و إنشاء بعثة علميّة لأخذ الصّور من مخلّفاتهم الخطّية المبعثرة في بلاد اليمن والقيام بنشرها، عمل مبارك وجهد مقدّر، لكن أثاره أبناء الاستشراق في نفوس هؤلاء. هذا هو (آلفرد جيوم) اُستاذ الدراسات الشّرقية في جامعة لندن يقول :
«إنّ ما انتهى إلينا من كتابات رجال الاعتزال قليل جدّاً إلى حدّ أنّنا مضطرّون إلى أن نعتمد على ما يقوله مخالفوهم عنهم، وقد كانوا يحملون لهم ذكريات مريرة لما قام به المعتزلة من أعمال تعسّفيّة لذلك، فإنّ أملنا لكبير، إذا كانت مكتبات الشيعة في اليمن أو في غير اليمن تحوي مخطوطات من أصل معتزلي أن نقوم بنشرها. هذا، وإنّ اُولئك الّذين يرغبون في الوقوف على نتاج العقل العربي في عصور الخلافة الذّهبية، يحسنون صنعاً إذا أقدموا على درس هذه الرسالة اللمّاعة في تأريخ حركة عظيمة في حركات الفكر العربي»(1).
وهذا «شتيز» المستشرق وصفهم بأنّهم المفكِّرون الأحرار في الاسلام، وألّف كتاباً بهذا الاسم.
ووصفهم «آدم ميت» و«هاملتون» بأنّهم دعاة الحريّة الفكرية والاستنارة (2).
وقال «جولد تسيهر»: «إنّ المعتزلة وسّعوا معين المعرفة الدينية بأن أدخلوا فيها عنصراً مهمّاً آخر قيّماً وهو العقل الّذي كان حتّى ذلك الحين مبعداً بشدّة عن هذه


 
من مقدمة كتاب المعتزلة، تأليف زهدي حسن جار الله، قدّم له «آلفرد جيوم» اُستاذ الدراسات الشرقية في جامعة لندن. عام 1947 م = 1366 هـ.
أدب المعتزلة: ص 172.


الناحية»(1).
وربّما يرد على الأخير بأنّه تجاسر على قلب الحقائق مسقطاً الواقع الّذي يثبت اجتهاد الرّسول و الصّحابة والتابعين... وكتب السنّة و السيرة والتّاريخ والفقه والخلاف والمقارنات الفقهيّة حافلة بما يؤيِّد اجتهادهم وتعويلهم على العقل.
يلاحظ عليه: أنّ كلام هذا الرادّ أقرب إلى قلب الواقع ممّا ذكره «جولد تسيهر» ذلك المستشرق الحاقد على الإسلام و نبيّه، وذلك لأنّ أهل الحديث والحنابلة ينكرون الحسن والقبح العقليّين، وإنكار ذلك مساوق لإنكارّ كثير من المعارف الدينيّة، والمعارف الدينيّة عندهم قائمة على السنّة فقط، و أحيانا على الكتاب. وأمّا العقل فهو محكوم عندهم بالاعدام، حتّى أنّ طريق الإمام أبي الحسن الأشعري غير مقبول لدى أهل الحديث والحنابلة ولأجل ذلك ما ذكروه في طبقاتهم، قائلين بأنّ الشيخ الأشعري يستدلّ على العقائد، مكان أن يعتمد فيها على الحديث والسنّة.
وأمّا الاعتماد على العقل في الفقه، فلو اُريد منه القياس والاستحسان فهو من قبيل العقل الظنّي الذي لا يغني من الحقّ شيئاً، و إن اُريد منه الحكم القطعي من العقل، فهو مبنيّ على التّحسين والتقبيح العقليين، وأهل الحديث والحنابلة حتّى الأشاعرة ينكرون إمكان هذا الادراك العقلي.
هذا وللمستشرقين كلمات اُخر في تحسين منهج الاعتزال ضربنا عنها صفحاً.
إنّ أحمد أمين (الكاتب الشهير المصري) مع أنّه لم يقف من كتب المعتزلة إلاّ على الأقل القليل كالانتصار لأبي الحسين الخيّاط (م 311)، والكشّاف للزمخشري(م538)، وبعض كتب الجاحظ (م 255) وقد اعتمد في نقل عقائد المعتزلة


 
المعتزلة بين العمل والفكر:ص 103، تأليف: علي الشابي، أبو لبابة حسن، عبد المجيد النجار. طبع الشركة التونسية.


على كتب الأشاعرة كمقالات الإسلاميين للشيخ الأشعري (م 324)، ونهاية الاقدام للشهرستاني (م 548)، والاقتصاد للغزالي (م 505)، والمواقف للعضدي (م 775) إلى

يقول حول نظريّتهم في حرّية العباد: «وقالت المعـتزلة بحرّية الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته حتّى جعلوه كالريشة في مهبّ الريح أو كالخشـبة في إليمّ. وعندي أنّ الخطأ في القول بسلطان العقل و حرّية الإرادة والغلوّ فيهما خير من الغلوّ في أضدادهما، وفي رأيي أنّه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى إليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التأريخ غير موقفهم الحالي وقد أعجزهم التسليم وشلّهم الجبر وقعد بهم التّواكل»(2).
3 ـ يقول في حقّ إبراهيم بن سيّار المعروف بالنظّام، الشخصيّة الرابعة بين المعتزلة بعد واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلاف، اُستاذ الجاحظ وقد توفّي عام 231: «أمّا ناحيته العقليّة ففيها الركنان الأساسيّان اللّذان سبّبا النهضة الحديثة في أروبا وهما الشكّ والتجربة، وأمّا الشكّ فقد كان يعتبره النظّام أساساً للبحث فكان يقول: الشاكّ أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قطّ حتّى صار فيه شكّ، ولم


 
ضحى الاسلام: ج 3، ص 68.
نفس المصدر : ج 3، ص 70.


ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتّى يكون بينهما حال شك.
وأمّا التجربة فقد استخدمها كما يستخدمها الطبيعي أو الكيمياوي اليوم في معمله»(1).
وقال أحمد أمين في مقال خاصّ تحت عنوان «المعتزلة والمحدثون»:
كان للمعتزلة منهج خاصّ أشبه ما يكون بمنهج من يسمّيهم الإفرنج العقليين، عمادهم الشكّ أوّلاً والتجربة ثانياً، والحكم أخيراً. وللجاحظ فى كتابه «الحيوان» مبحث طريف عن الشكّ، وكانوا وفق هذا المنهج لا يقبلون الحديث إلاّ إذا أقرّه العقل، ويؤوّلون الآيات حسب ما يتّفق والعقل كما فعل الزمخشري في الكشّاف، ولا يؤمنون برؤية الإنسان للجنّ لأنّ الله تعالى يقول: (إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) ويهزأون بمن يخاف من الجنّ، ولا يؤمنون بالخرافات والأوهام، و يؤسّسون دعوتهم إلى الإسلام حسب مقتضيات العقل و فلسفة اليونان، ولهم في ذلك باع طويل، ولا يؤمنون بأقوال أرسطو لأنّه أرسطو، بل نرى في « الحيوان » أنّ الجاحظ يفضّل أحياناً قول أعرابيّ جاهلي بدويّ على قول أرسطو الفيلسوف الكبير.
هكذا كان منهجهم، وهو منهج لا يناسب إلاّ الخاصّة، ولذلك لم يعتنق الاعتزال إلاّ خاصّة المثقّفين، أمّا العوام فكانوا يكرهونه.
ويقابل هذا المنهج منهج المحدِّثين، وهو منهج يعتمد على الرواية لا على الدراية، ولذلك كان نقدهم للحديث نقد سند لا متن، ومتى صحّ السند صحّ المتن ولو خالف العقل، وقلّ أن نجد حديثاً نُقد من ناحية المتن عندهم، و إذا عُرض عليهم أمر رجعوا إلى الحديث ولو كان ظاهره لا يتّفق والعقل، كما يتجلّى ذلك في مذهب الحنابلة.
وكان من سوء الحظّ أن تدخل المعتزلة في السياسة ولم يقتصروا على الدين ، والسياسة دائماً شائكة، فنصرهم على ذلك المأمون والواثق والمعتصم، وامتحنوا النّاس وأكرهوهم على الاعتزال، فكرههم العامّة واستبطلوا الإمام ابن حنبل الّذي وقف في وجههم، فلمّا جاء المتوكّل انتصر للرأي العام ضدّهم، وانتصر للإمام أحمد بن حنبل على الجاحظ وابن أبي دوآد وأمثالهما، و نكّل بهم تنكيلاً شديداً، فبعد أن كان يتظاهر الرجل بأنّه معتزلي، كان الرجل يعتزل ويختفي حتّى عدّ جريئاً كلّ الجراءة الزمخشري الّذي كان يتظاهر بالاعتزال و يؤلّف فيه، ولم يكن له كلّ هذا الفضل، لأنّه أتى بعد هدوء الفورة الّتي حدثت ضدّ الاعتزال.
   فلنتصوّر الآن ماذا كان لو سار المسلمون على منهج الاعتزال إلى اليوم؟. أظنّ أنّ مذهب الشكّ و التجربة وإليقين بعدهما كان يكون قد ربى و ترعرع و نضج في غضون الألف سنة الّتي مرّت عليه، وكنّا نفضّل الأروبيّين في فخفختهم و طنطنتهم بالشكّ و التجربة الّتي ينسبانها إلى «بيكن» مع أنّه لم يعمل أكثر من بسط مذهب المعتزلة. وكان هذا الشكّ و هذه التّجربة مما يؤدّي حتماً إلى الاختراع و بدل تأخّر الاختراع إلى ما بعد بيكن وديكارت، كان يتقدم مئات من السنين، وكان العالم قد وصل إلى ما لم يصل إليه إلى اليوم، وكان وصوله على يد المسلمين لا على يد الغربيّين، وكان لا يموت خلق الابتكار في الشرق و يقتصر على الغرب.
   فقد عهدنا المسلمين بفضل منهج المحدِّثين يقتصرون على جمع متفرّق أو تفريق مجتمع، وقلّ أن نجد مبتكراً كابن خلدون الّذي كانت له مدرسة خاصّة، تلاميذها الغربيّون لا الشرقيون.
   فالحقّ أن خسارة المسلمين بإزالة المعتزلة من الوجود كانت خسارة كبرى لاتعوّض.
   ثمّ بدأ المسلمون ينهجون منهج الحضارة الغربيّة تقليداً من الخارج لا بعثاً من الداخل، وشتّان ما بينهما، فالتقليد للخارج بثّ فيهم ما يسمّيه علماء النفس مركب النقص، فهم يرون أنّهم عالة على الغربيّين في منهجهم، ولو كان من أنفسهم لاعتزّوا به


وافتخروا، ولكن ما قُدّر لا بدّ أن يكون، ولله في خلقه شؤون»(1).
هذا بعض ما تأثّر به الاُستاذ المصري بمنهج الاعتزال فأطلق قلمه بمدحهم، ولكن لـمّا وقف في غضون التأريخ على أنّ المعتزلة تربّت في أحضان البيت العلوي و أنّ واصل بن عطاء مؤسّس المنهج تتلمذ على أبي هاشم بن محمّد الحنفيّة، وأنّهم أخذوا التوحيد والعدل من الاُصول الخمسة من خطب الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ثارت ثورته وثقل عليه البحث لما يكنّه في نفسه من عداء وحقد للشيعة وأئمّتهم فانبرى لتحريف التأريخ و إسدال الستر على الحقيقة و إنكار كون الأصل لبعض اُصول المعتزلة هو البيت العلوي. ولنا معه في ذلك الفصل بحث ضاف فانتظر. هذا والكلام حول هذه الطائفة يأتي في فصول:
أصدرت دار الكتب المصرية عام 1967 قائمة المخطوطات العربية المصوّرة بالميكروفيلم من الجمهورية العربية اليمنية. كما قامت بنشر كتب القاضي عبد الجبار رئيس الاعتزال في اوائل القرن الخامس فطبعت منها كتاب شرح الاُصول الخمسة وكتاب المغني له أيضاً في أربعة عشر جزءاً وغيرهما.




 
مثلاً نسب إليهم أنّهم لا يقولون بعذاب القبر مع أنّ القاضي في شرح الاُصول الخمسة ص 732 يقول: إنّ المعتزلة تقول بعذاب القبر ولا تنكره قال: وأمّا فائدة عذاب القبر وكونه مصلحة للمكلّفين فإنّهم متى علموا أنّهم إن أقدموا على المقبحات وأخلوا بالواجبات عذِّبوا في القبر... وسيأتي البحث عنه في محلّه.
الملل والنحل: ج 1 ص 169.


 
رسالة الإسلام التي تصدرها «دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة» بالقاهرة: العدد الثالث من السنة الثالثة.
ضحى الاسلام: ج 3، ص 112.


من هم المعتزلة ؟

  لقد انشغل بال الباحثين من المسلمين و المستشرقين سبب تسمية هذه الطّائفة بالمعتزلة ، فاختار كلّ مذهباً، وهذا ذكر  لجميع الآراء أو أكثرها على وجه الاجمال ، مع التّحليل والقضاء بينها.
  قال أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي ـ من أعلام القرن الثالث ، في كتابه «فرق الشيعة» عندالبحث عن الأحداث الواقعة بعد قتل عثمان : «فلمّا قُتِل بايع الناس عليّاً فسمّوا الجماعة ، ثمّ افترقوا بعد ذلك ، و صاروا ثلاث فرق : فرقة أقامت على ولايته ـ عليه السلام ـ ، وفرقة خالفت عليّاً وهم طلحة والزبير و عائشة ، وفرقة اعتزلت مع سعد بن مالك وهو سعدبن أبي وقّاص ، وعبدالله بن عمر بن الخطّاب ، ومحمّد بن مسلمة الأنصاري ، واُسامة بن زيد بن حارثة الكلبي ، مولى رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ، فإنّ هؤلاء اعتزلوا عن علي ـ عليه السلام ـ وامتنعوا عن محاربته ، والمحاربة معه بعد دخولـهم في بيعته والرضا به . فسمّوا المعتزلة ، وصاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد ، وقالوا : لا يحلّ قتال عليّ ولاالقتال معه .
  وذكر بعض أهل العلم : أنّ الأحنف بن قيس التميمي اعتزل بعد ذلك في خاصّة قومه من بني تميم ، لا على التديّن بالاعتزال ، ولكن على طلب السلامة في القتل و ذهاب المال ، وقال لقومه : اعتزلوا الفتنة أصلح لكم».
  وذكر(1) نصر بن مزاحم المنقري : أنّ المغيرة بن شعبة كان مقيماً بالطّائف لم يشهد صفّين . فقال معاوية: يا مغيرة: ما ترى؟ قال: يا معاوية لو وسعني أن أنصرك لنصرتك، ولكن عليّ أن آتيك بأمر الرجلين (أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص) فركب حتّى أتى دومة الجندل، فدخل على أبي موسى كأنّه زائر له، فقال: يا أبا موسى! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر و كره الدماء؟ قال: اُولئك خيار الناس خفّت ظهورهم من دمائهم و خمصت بطونهم من أموالهم.
ثمّ أتى عمراً فقال: يا أبا عبدالله ! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟
فقال: اُولئك شرّ الناس لم يعرفوا حقّاً ولم ينكروا باطلا(2).
غير أنّ شيوخ المعتزلة يردّون هذه الرواية ولا يقيمون لها وزناً. بل يقول البلخي: «ومن الناس من يقول سمّوا معتزلة لاعتزالهم عليّ بن أبي طالب في حروبه، وليس كذلك، لأنّ جمهور المعتزلة بل أكثرهم إلاّ القليل الشاذّ منهم يقولون إنّ عليّاً ـعليه السلامـ كان على صواب، وإنّ من حاربه فهو ضالّ و تبرّأوا ممّن لم يتب عن محاربته ولا يتولّون أحداً ممّن حاربه إلاّ من صحّت عندهم توبته منهم، و من كان بهذه الصفة فليس بمعتزل عنه ـعليه السلامـ ولا يجوز أن يسمّى بهذا الاسم»(3).
أقول: لولا أنّ النوبختي ذكر بعد نقل هذه الرواية قوله: «وأنّهم صاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد» لأمكن المناقشة في كونه وجه التسّمية، و أنّ الاعتزال بالطابع الفكري والعقلي كان استمراراً للاعتزال بطابعه السياسي. إذ من الممكن أن تستعمل كلمة واحدة في طائفتين يجمعهما جامع وهو العزلة وترك الجماعة. فهؤلاء الّذين خذلوا عليّاً بترك البيعة والحرب معه ضدّ الناكثين والقاسطين معتزلون، كما أنّ واصل بن عطاء و تلاميذه معتزلون لأجل تركهم مجلس درس اُستاذه و تلاميذه كما يأتي في الرواية الاُخرى. واطلاق كلمة واحدة على الطائفتين اللّتين لهما طابعان مختلفان لا يدلّ على أنّ الطائفة الثانية هي استمرار للاُولى. و إنّما يمنعنا عن ردّ هذه النّظرية على وجه القطع هو صراحة كلام النوبختي في ذلك.



 
 فرق الشيعة: ص 5 طبع النجف عام 1355 هـ.
وقعة صفين ص 620 ـ 621 طبع مصر.
فضل الاعتزال ص 13 ـ 14.


وهناك رواية اُخرى تدلّ على أنّ تسميتهم بهذا اللّقب لاعتزالهم عن الحسن بن عليّ و معاوية، نقله الملطي (المتوفّى عام 373) في «التنبيه والردّ» واستحسنه الكوثري(1) وحسب أنّه وقف على أمر بديع. يقول الملطي: «وهم سمّوا أنفسهم معتزلة وذلك عندما بايع الحسن بن عليّ ـ عليهما السلام ـ معاوية وسلّم إليه الأمر اعتزلوا الحسن بن علي و معاوية و جميع الناس، وذلك أنّهم كانوا من أصحاب علي ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا نشتغل بالعلم والعبادة و سمّوا بذلك معتزلة»(2).
   أقول : هذا الرأي قريب من جهة، لأنّ المعتزلة أخذوا تعاليمهم في التوحيد والعدل عن عليّ ـعليه السلامـ كما سيأتي، فليس ببعيد أن يرجع وجه التسمية إلى زمن تصالح الإمام الحسن ـ عليه السلام ـ مع معاوية.
   ومع ذلك كلّه، يمكن أن يقال فيه مثل ما قلناه في النظرية السابقة ، وهو أنّه كانت طائفتان مختلفتان لا صلة بينهما سوى الاشتراك الاسمي، ظهرت إحداهما بعد صلح الحسن ـ عليه السلام ـ وكان لها طابع سياسي، وظهرت الاُخرى في زمن الحسن البصري عند اعتزال واصل عن حلقة بحثه كما سيأتي بيانه، لها طابع عقلي.
وهناك إشكال آخر يتوجّه على رواية الملطي حيث قال: «وهم سمّوا أنفسهم معتزلة» وهو أنّ لفظ الاعتزال ليس لفظاً يعرب عن المنهج حتّى يطلقوا هذا الاسم على أنفسهم، إن لم يكن فيه دلالة على ذمّ ما.
   تعليق «تبيين كذب المفتري» ص 10.
   التنبيه والرد ص 26.
وهناك رواية ثالثة رواها ابن دريد يتحدّث عن بني العنبر قال: «ومن رجالهم في الإسلام عامر بن عبدالله يقال له عامر بن عبد قيس، وكان عثمان بن عفّان كتب إلى عبدالله بن عامر أن يسيّره إلى الشام، لأنّه يطعن عليهم وكان من خيار المسلمين وله كلام في التوحيد كثير، وهو الّذي اعتزل الحسن البصري فسمّوا المعتزلة»(1).
وروى أبو نعيم بالإسناد عن الحسن البصري أنّه قال: «كان لعامر بن عبدالله بن عبد قيس مجلس في المسجد فتركه حتّى ظننّا أنّه قد ضارع أصحاب الأهواء، قال: فأتيناه فقلنا له: كان لك مجلس في المسجد فتركته؟ قال: أجل، إنّه مجلس كثير اللغط والتّخليط، قال: فأيقّنا أنّه قد ضارع أصحاب الأهواء، فقلنا: ما تقول فيهم؟ قال: وما عسى أن أقول فيهم ... الخ» ، ونقل أبو نعيم الاصفهاني أيضاً أنّه عتب أبو موسى الأشعري(2) عامربن عبد قيس اعتزاله مجلسه الّذي اعتاده في المسجد، فكتب إليه قائلاً:

. حلية الأولياء: ج 2 ص 93 ـ 95.


يلاحظ عليه: أنّ الحسن البصري ولد بالمدينة عام (21)، ثمّ سكن البصرة وتوفّي عام (110)، فمن البعيد أن يكون له مجلس بحث في المسجد وهو من أبناء العشرين أو دونه، فلو صحّ ما حدّده المعلّق من زمن الاعتزال يلزم أن يكون له مجلس بحث في المسجد بين أعوام 35 ـ 44، ويكون عامر بن عبدالله الشخصيّة المعروفة أحد حضّار بحثه، وقد قدّر الزركلي في كتابه «الأعلام» وفاة عامر نحو سنة (55)(1).
ثمّ إنّ عتب أبي موسى لا يصحّ أن يكون في خلال تسع سنوات بين أعوام 35 ـ 44 لأنّه عزل عن الولاية عام 36 و غادر الكوفة ولم يرجع إليها، ولـمّا أصدر حكمه الجائر في دومة الجندل ضدّ عليّ ـ عليه السلام ـ خاف من انتفاضة الناس و ثورتهم عليه، وغادرها إلى مكّة المكرّمة ومات بها عام 43 أو 44. ولو صحّ عتابه لكان قبل سنة 36، وهذا يستلزم أن تكون للحسن حلقة بحث في أوان البلوغ، وهو بعيد، مع وجود وجوه الصّحابة وأكابر التّابعين في الكوفة.
ثمّ لو صحّت الرواية لما صحّ أن يكون عامر بن عبدالله، المؤسّس الأوّل لمذهب الاعتزال و إن استعمل في حقّه كلمة الاعتزال، لأنّ كلمة الاعتزال في تلك العصور كانت رمزاً للتخلّف عن الفكرة السائدة على المجتمع، فمن خالف الفكرة و انحاز عنها، أطلق على فعله الاعتزال و على نفسه المعتزل، ازدراءً به، وتلك الكلمة بمنزلة الرجعية في أعصارنا هذه، و ما جاء في تلك الروايات إشارة إلى أنّ هؤلاء اعتزلوا عن السياسة السائدة على المجتمع كما في اعتزال سعدبن أبي وقّاص و نظائره. أو اعتزال جماعة عن الحسن بن عليّ ـ عليهما السلام ـ أو عن الفكرة الدينيّة كما في الرواية الثالثة. والحقّ في التسمية ما نذكره في القول الرابع وقد تواتر نقله.
قد عرفت أنّ حكم مرتكب الكبيرة قد أوجد ضجّة كبيرة في الأوساط الإسلاميّة


 
. الأعلام: ج 4 ، ص 21.


في عصر عليّ ـ عليه السلام ـ وبعده، حيث عدّ الخوارج مرتكب الكبيرة كافراً، كما عدّه غيرهم مؤمناً فاسقاً، وعدّت المرجئة من شهد بالتوحيد والرسالة لساناً أو جناناً مؤمناً. وقد أخذت المسألة لنفسها مجالاً خاصّاً للبحث عدّة قرون. وكان للمسألة في زمن الحسن البصري دويّ خاصّ.
نقل الشهرستاني أنّه دخل واحد على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضرّ مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، ولا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الاُمّة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟
فتفكّر الحسن في ذلك و قبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن و لا كافر. ثمّ قام و اعتزل إلى اسطوانة المسجد يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة(1).
و ربّما نسبت هذه الواقعة بشكل آخر إلى «عمرو بن عبيد». قال ابن خلّكان في ترجمة قتادة السدوسي: «كان قتادة من أنسب الناس كان قد أدرك ذعفلاً و كان يدور البصرة أعلاها و أسفلها بغير قائد فدخل مسجد البصرة، فإذا بعمرو بن عبيد و نفر معه قد اعتزلوا من حلقة الحسن البصري و حلّقوا و ارتفعت أصواتهم، فأمّهم وهو يظن أنّها حلقة الحسن، فلمّا صار معهم عرف أنّها ليست هي. فقال: إنّما هؤلاء المعتزلة، ثمّ قام عنهم فمذ يومئذ سمّوا المعتزلة»(2).
وتظهر تلك النّظرية من الشيخ المفيد في «أوائل المقالات» حيث قال: «وأمّا المعتزلة وما وسمت به من اسم الاعتزال، فهو لقب حدث لها عند القول بالمنزلة بين المنزلتين، وما أحدثه واصل بن العطاء من المذهب في ذلك ونصب من الاحتجاج له، فتابعه عمرو بن عبيد، ووافقه على التديّن به من قال بها و من اتّبعهما عليه، إلى اعتزال الحسن البصري و أصحابه والتحيّز عن مجلسه فسمّاهم الناس المعتزلة لاعتزالهم مجلس الحسن بعد أن كانوا من أهله و تفرّدهم بما ذهبوا إليه من هذه المسألة من جميع الاُمّة وسائر العلماء ولم يكن قبل ذلك يعرف الاعتزال ولا كان علماً على فريق من الناس»(1).
ولولا قوله: «وتفرّدهم بما ذهبوا إليه في هذه المسألة من جميع الاُمّة و سائر العلماء» لكان نصّاً في هذه النظرية، إلاّ أنّ هذا الذيل يمكن أن يكون إشارة إلى النظرية الأخرى الّتي ستبيّن.
قد نقل اعتزال واصل حلقة الحسن جماعة كثيرة، فنقلها المرتضى في أماليه ج 1 ص 167، والبغدادي في الفرق بين الفرق ص 118، والشهرستاني في الملل و النحل ج 1 ص 48، وابن خلكان في وفيات الأعيان ج 6 ص 8، والمقريزي في خططه ج 2 ص346.
وعلى كلّ تقدير فقد ناقش الدكتور «نيبريج» المستشرق هذه النظرّية بأنّه وردت تسمية هذه المدرسة بأهل الاعتزال بمن قال بالاعتزال، ولو كان معنى الكلمة ما زعموه لما جاز مثل هذه التسمية، ثم إنّ لها عدّة نظائر في عرف ذلك الزمان كالمرجئة يرادفها أهل الارجاء وهم الّذين قالوا بالإرجاء، والرافضة يرادفها أهل الرفض ومن قال بالرفض(2).
ولعلّ المناقشة في محلّها كما سيظهر مما ننقله عن المسعودي في النّظرية السادسة.
الفرق بين الفرق: ص 21، وفي ذيل عبارته ما يدل على أنّ تسميتهم بها لأمر آخر سيوافيك بيانه.
وفيات الأعيان ج 4 ص 85 رقم الترجمة 541.
وهناك رأي خامس في تسميتهم بالاعتزال يظهر من شيخ المعتزلة أبي القاسم البلخي (م 317) يقول: «والسبب الّذي له سمّيت المعتزلة بالاعتزال; أنّ الاختلاف


 
أوائل المقالات ص 5 ـ 6.
مقدمة كتاب الانتصار لأبي الحسين الخياط ص 54.


وقع في أسماء مرتكبي الكبائر من أهل الصّلاة، فقالت الخوارج: إنّهم كفّار مشركون وهم مع ذلك فسّاق، وقال بعض المرجئة: إنّهم مؤمنون لإقرارهم بالله و رسوله و بكتابه و بما جاء به رسوله وإن لم يعملوا به، فاعتزلت المعتزلة جميع ما اختلف فيه هؤلاء وقالوا نأخذ بما اجتمعوا عليه من تسميتهم بالفسق وندع ما اختلفوا فيه من تسميتهم بالكفر والإيمان والنفاق و الشّرك، قالوا: لأنّ المؤمن وليّ الله، والله يجبّ تعظيمه و تكريمه وليس الفاسق كذلك، والكافر والمشرك و المنافق يجب قتل بعضهم و أخذ الجزية من بعض، وبعضهم يعبد في السرّ إلهاً غير الله، وليس الفاسق بهذه الصفة.
قالوا: فلمّا خرج من هذه الأحكام، خرج من أن يكون مسمّى بأسماء أهلها وهذا هو القول بالمنزلة بين المنزلتين أي الفسق منزلة بين الكفر والإيمان»(1).
و يظهر هذا من البغدادي أيضاً قال: «ومنها اتّفاقهم على دعواهم في الفاسق من اُمّة الإسلام بالمنزلة بين المنزلتين وهي أنّه فاسق لا مؤمن ولا كافر، ولأجل هذا سمّاهم المسلمون «معتزلة» لاعتزالهم قول الاُمّة بأسرها»(2) وفي الوقت نفسه نقل البغدادي، قصّة اعتزال «واصل» حلقة الحسن بنحو يوهم كون وجه التسمية هو اعتزال واصل مجلس الحسن. لاحظ ص 118.
ويظهر من ابن المرتضى تأييده. قال في ذيل كلامه: «سمّي و أصحابه معتزلة لاعتزالهم كلّ الأقوال المحدّثة و المجبّرة». ثمّ ردّ على من زعم أنّ إطلاق المعتزلة لمخالفتهم الاجماع بقوله: «لم يخالفوا الإجماع، بل عملوا بالمجمع عليه في الصدر الأوّل ورفضوا المحدثات المبتدعة»(3).
ويظهر هذا أيضاً من نشوان بن سعيد اليمني حيث قال:
«وسمّيت المعتزلة معتزلة لقولهم بالمنزلة بين المنزلتين وذلك أنّ المسلمين اختلفوا


 
باب ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين للبلخي ص 115.
الفرق بين الفرق: ص 21 و 115، ط دار المعرفة.
المنية والأمل: لأحمد بن يحيى المرتضى ص 4 طبع دار صادر .


في أهل الكبائر فقالت الخوارج: هم كفّار مشركون، وقال بعض المرجئة: إنّهم مؤمنون، وقالت المعتزلة: لا نسمّيهم بالكفر و لا بالإيمان، ولا نقول إنّهم مشركون ولا مؤمنون بل فسّاق، فاعتزلوا القولين جميعاً و قالوا بالمنزلة بين المنزلتين فسمّوا بالمعتزلة»(1).
وهذه النظرية غير النظرية الماضية، فإنّ الاعتزال فيها كان وصفاً لنفس المعتزلة فهم اعتزلوا عن جميع ما اختلفت فيه من الآراء و أخذوا بالمتّفق عليه، ولكنّه في هذه النظرية وصف لمورد الخلاف، أعني الفاسق، فجعلوه معتزلاً عن الإيمان والكفر، فلا هو مؤٌمن ولا كافر، وتظهر تلك النّظرية من المسعودي في مروجه، قال في بيان الأصل الرابع من الاُصول الخمسة: «وأمّا القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو الأصل الرابع، فهو أنّ الفاسق المرتكب للكبائر ليس بمؤمن ولا كافر، بل يسمّى فاسقاً على حسب ما ورد التّوقيف بتسميته وأجمع أهل الصّلاة على فسوقه».
قال المسعودي: «وبهذا الباب سمّيت المعتزلة، وهو الاعتزال، وهو الموصوف بالأسماء والأحكام مع ما تقدّم من الوعيد في الفاسق من الخلود في النار»(2).
وقال أيضاً: «مات واصل بن عطاء ـ ويكنّى بأبي حذيفة ـ في سنة إحدى و ثلاثين و مائة وهو شيخ المعتزلة و قديمها، وأوّل من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو أنّ الفاسق من أهل الملّة ليس بمؤمن ولا كافر وبه سمّيت المعتزلة وهو الاعتزال»(3).
والدقّة في قوله: «وبه سمّيت...» (أي بعزل الفاسق عن الإيمان والكفر) تعطي أنّ وجه التسمية يعود إلى جعل الفاسق منعزلاً عنهما.


 
 شرح رسالة الحور العين: ص 204 ـ 205.
مروج الذهب: ج 3، ص 222، ط بيروت دار الأندلس.
نفس المصدر : ج 4 ص 22، ط بيروت دار الأندلس.


وهناك نظريّة سابعة ذكرها أحمد أمين المصري في فجر الإسلام ص 344، ولكنّها من الوهن بمكان لم يرتضها هو نفسه في كتبه اللاحقة فلنضرب عنها صفحاً.
إلى هنا خرجنا بهذه النّتيجة أنّه لو كان أساس الاعتزال هو واصل بن عطاء أو عمرو بن عبيد، فتسميتهم بالمعتزلة، إمّا لاعتزال المؤسّس عن مجلس البحث أو باعتزاله عن الرأيين السائدين، أو لاعتقادهم بكون الفاسق منعزلاً عن الكفر والإيمان، وخروج مرتكب الكبيرة عن عداد المؤمنين والكافرين.
والعجب أنّ اُستاذ واصل كان يذهب إلى أنّه منافق، وأراد بذلك تخفيف أمره بالنسبة إلى الكافر، مع أنّ جزاء المنافق في الآخرة لو لم يكن أشدّ من الكافر ليس بأقلّمنه.
أرى أنّ إفاضة الكلام في تحقيق وجه التسمية أزيد من هذا خروج عن وضع الرسالة فلنرجع إلى سائر أسمائهم.
فقد ذكر ابن المرتضى لهم أسماء اُخر.
1 ـ العدليّة: لقولهم بعدل الله و حكمته.
2 ـ الموحّدة: لقولهم لا قديم مع الله (1).
ولأجل هذا يطلق على هذه الطّائفة أهل العدل و التوحيد، ولعلّهم يعنون بالعدل مضافاً إلى ما ذكر ابن المرتضى نفي القدر بالمعنى المستلزم للجبر، أو يريدون بذلك نفي كونه سبحانه خالقاً لأفعال العباد، إذ فيه الظلم والقبيح والجور، وأمّا التّوحيد فإنّهم يريدون منه نفي الصفات الزائدة القديمة، فإنّ في الاعتقاد بزيادة الصفات اعتراف بقدماء معه سبحانه، وتنزيهه سبحانه عن التشبيه و التجسيم،


 
1 . المنية و الأمل ص 1.


وسيأتي أنّ هذين الأصلّين اللّذين يعدّان الرّكنين الأساسيين لمدرسة الاعتزال مأخوذان من خطب الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ.
3 ـ أهل الحق: المعتزلة يعتبرون أنفسهم أهل الحقّ، والفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة، وقد فرغنا الكلام عن هذا الحديث و تعيين الفرقة الناجية في الجزء الأوّل.
4 ـ القدرية: يعبّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة. والمعتزلة يطلقونها على خصمائهم، وذلك لما روي عن النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: أنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة. فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر عِدْل القضاء، فتنطبق على خصماء المعتزلة القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة، أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره و تمكّنه في إيجاده، فتنطبق ـ على زعم الخصماء ـ على المعتزلة لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث و ذكر كلّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها(1).
والحقّ أنّ المتبادر من الحديث هو القدريّة المنسوبة إلى القدر الّذي هو بمعنى التقدير، و إطلاقه على مثبت القدر كأهل الحديث والحنابلة متعيّن، إذ لا يطلق الشيء و يراد منه ضدّه.
فلو كان المراد منه المعتزلة يجب أن يراد منها نفي القدر. وقد روي عن زيد بن عليّ أنّه قال ـ حين سأله أبو الخطّاب عمّا يذهب إليه ـ : «أبرأ من القدريّة الّذين حملوا ذنوبهم على الله ومن المرجئة الّذين أطمعوا الفسّاق». هذا، ولقد أوضحنا المراد من الحديث في محلّه(2).
5 ـ الثنوية: المعتزلة يدعون بالثنوية و لعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم لقولهم


 
لاحظ في الوقوف على هذه الوجوه كشف المراد للعلامة الحلي ص 195، وشرح المقاصد للتفتازاني ج 2 ص 143، وقد مضى الكلام في سند الحديث ودلالته في فصل القدرية من هذا الجزء فلاحظ.
لاحظ الجزء الأول من الملل والنحل للمؤلف ص 103 ـ 109 ولاحظ الالهيات في ضوء الكتاب والسنة والعقل: محاضراتنا الكلامية بقلم الفاضل الشيخ حسن مكي.


الخير من الله والشرّ من العبد.
وهناك وجه آخر لتسميتهم بالثنويّة، أو المجوسيّة، وهو أنّ المعتزلة قالت باستقلال الإنسان في ايجاد فعله، بل نقل عن بعضهم القول بحاجة الموجود في حدوثه إلى الواجب دون بقائه و استمراره، فصيّروا الإنسان كأنّه مستقلّ فى فعله، بل صيّروا الممكنات كواجب غنىّ عن العلّة في بقائه و استمراره، دون حدوثه.
ولكنّ النسبة غير صحيحة، إلاّ إلى بعض المتأخّرين من المعتزلة، ولم يظهر لنا أنّ المتقدّمين منهم كانوا على هذا الرأي.
6 ـ الوعيديّة: و إنّما اُطلقت عليهم هذه الكلمة لقولهم بالوعد والوعيد، وأنّ الله صادق في وعده، كما هو صادق في وعيده و أنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ولا يغفر له جزماً و يخلّد في النار و يعذّب عذاباً أضعف من عذاب الكافر.
7 ـ المعطّلة: أي تعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية، وهذا اُلصق بالجهميّة الّذين يعدّون في الرعيل الأوّل فى نفي الصفات.وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان:
1 ـ القول بالنيابة، أي خلوّ الذات عن الصفات ولكن تنوب الذات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم «خذ الغايات واترك المبادئ»، وهذا مخالف لكتاب الله و السنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة، وأمّا العقل، فحدث عنه ولا حرج، لأنّ الكمال يساوق الوجود وكلّما كان الوجود أعلى و أشرف يكون الكمالات فيه آكد.
2 ـ عينيّة الصفات مع الذات و اشتمالها على حقائقها. من دون أن يكون ذات وصفة، بل الذات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم والقدرة.
وهذا هو الظاهر من خطب الإمام أمير المؤمنين ـعليه السلامـ ، وتعضده البراهين


العقليّة و إطلاق المعطّلة على هذه الطائفة لا يخلو من تجنّ وافتراء.
والأولى بهذا الاسم أهل الحديث و الحنابلة، فإنّهم المعطِّلة حقيقة، إذ عطّلوا العقول عن معرفة الله و أسمائه و صفاته و أفعاله، ومنعوا الخوض فى المسائل العقليّة، وكأنّ العقل خلق لا لغاية إلاّ للسعي وراء الحياة الماديّة.
 ـ الجهميّة:(1) وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فكلّما يقول: قالت الجهميّة، أو يصف القائل بأنّه جهمي يريد به المعتزلة لما وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل، و إن كانت الجهمية متقدّمة على المعتزلة، لكنّها على زعمهم مهّدوا السّبيل للمعتزلة ، مع أنّك عرفت أنّ واصلاً أرسل أحد تلاميذه إلى معارضته و أنّهم لا يعدّون الجهم من رجالهم أو طبقاتهم لاختلافهم معه في بعض المسائل الجوهرية، فإنّ الجهم جبريّ والمعتزلة قائلة بالاختيار، ولعلّ بعض هذه التسميات من مصاديق قوله سبحانه (ولا تنابزوا بالألقاب)(الحجرات/11).
9ـ المفنية:
10 ـ اللفظيّة:
وهذان اللقبان ذكرهما المقريزي وقال: أنّهم يوصفون بالمفنية لما نسب إلى أبى الهذيل من فناء حركات أهل الجنّة و النار، واللّفظيّة لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة والقبريّة لانكارهم عذاب القبر(2).


 
نسبة إلى الجهم بن صفوان، وقد عرفت القول في عقائده وآرائه وأنّ المهم منه أمران: نفي الرؤية والجبر.
2 . الخطط للمقريزي: ج 4، ص 169.

و خطب الإمام عليّ ـ عليه السلام ـ
قد تعرّفت فيما مضى على تأريخ ظهور المعتزلة و أنّ الاعتزال بعنوان المنهج الفكري العلمي لا السياسي يرجع إلى أوائل القرن الثاني، وذلك عندما اعتزل واصل بن عطاء عن حلقة الحسن البصري و شكّل حلقة دراسية فكريّة في مقابل اُستاذه، والقرائن القطعيّة تؤكّد بظهوره في أوائل ذلك القرن، فإنّ واصل بن عطاء من مواليد عام 80 من الهجرة، وقد توفّي اُستاذه الحسن البصري عام 110، فمن البعيد أن يستطيع إنسان على تشكيل حلقة دراسيّة قابلة للذكر في مقابل الخطيب الحسن البصري، وله من العمر دون العشرين. وهذا يؤكّد على أنّ الاعتزال ظهر في أوائل القرن الثاني.
ثمّ إنّ القول بالمنزلة بين المنزلتين و إن كان يعدُّ منطلق الاعتزال، ومغرس بذره، ولكن حقيقة الاعتزال لا تقوم بهذا الأصل، ولا يعدّ الدرجة الاُولى من اُصوله، فإنّ الأصلين التوحيد والعدل يعدّان حجر الأساس لهذا المنهج، وسائر الاُصول في الدرجة الثانية.
وفي ضوء هذا يقف القارئ بفضل النصوص الآتية على أنّ الاعتزال أخذ ذينك الأصلين من البيت العلويّ عامّة، ومن خطب الإمام عليّ ـعليه السلامـ وكلماته خاصّة، ولأجل ذلك يجب أن يعترف بأنّ الاعتزال أخذ الاُصول الأصليّة لمنهجه من بيت الولاية.
ولأجل ايقاف القارئ هذا الاستنتاج، نضع أمامه شواهد من التأريخ والاعترافات الّتي أجهر بها شيوخ المعتزلة:
1 ـ هذا هو الكعبي إمام المعتزلة في أوائل القرن الرابع يقول: «والمعتزلة يقال إنّ لها و لمذهبها أسناداً تتّصل بالنبيّ وليس لأحد من فرق الاُمّة مثلها، وليس يمكن لخصومهم دفعهم عنه، وهو أنّ خصومهم يقرّون بأنّ مذهبهم يسند إلى واصل بن عطاء، وأنّ واصلاً يسند إلى محمّد بن عليّ بن أبي طالب و ابنه أبي هاشم عبدالله بن محمد بن علي، وأنّ محمّداً أخذ عن أبيه علىّ و أنّ علياً عن رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم(1).
2 ـ كان واصل بن عطاء من أهل المدينة ربّاه محمّد بن عليّ بن أبي طالب و علّمه، وكان مع ابنه أبي هاشم عبدالله بن محمّد في الكتاب، ثمّ صحبه بعد موت أبيه صحبة طويلة، وحكي عن بعض السّلف أنّه قيل له: كيف كان علم محمّد بن عليّ؟ فقال: إذا أردت أن تعلم ذلك فانظر إلى أثره في واصل. ثمّ انتقل واصل إلى البصرة فلزم الحسن ابن أبي الحسن (2).
3 ـ وقال القاضي عبد الجبّار في «طبقات المعتزلة»: «وأخذ واصل العلم عن محمّد بن الحنفيّة وكان خالاً لأبي هاشم وكان يلازم مجلس الحسن»(3).
وما ذكره القاضي لا ينطبق على الحقيقة، فإنّ واصل بن عطاء الغزّال ولد بالمدينة سنة ثمانين، وقد مات محمّد بن الحنفيّة عام 80 أو 81، فلا يصحّ أخذ العلم منه، والصّحيح أن يقال أخذ واصل العلم من أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة، وقد نقل المحقّق أنّ في حاشية الأصل «من أبي هاشم».
والصّحيح ما في عبارته التالية، قال:
وقال: «إنّ أبا الهذيل قد أخذ هذا العلم عن عثمان الطّويل، وعثمان أخذ عن واصل بن عطاء و عمرو بن عبيد، وأخذ واصل و عمرو عن أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة، وأخذ أبو هاشم عن أبيه محمّد بن الحنفيّة، وأخذ محمّد عن أبيه عليّ بن أبي طالب ـعليه السلامـ وأخذ عليّ عن النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم»(1).
وقد تنبّه الشريف المرتضى لما ذكرنا. قال: «وذكر أبو الحسين الخيّاط أنّ واصلاً كان من أهل مدينة الرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ومولده سنة ثمانين و مات سنة إحدى و ثلاثين و مائة. وكان واصل ممّن لقى أبا هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وصحبه، و أخذ عنه و قال قوم إنّه لقى أباه محمّداً و ذلك غلط، لأنّ محمّداً توفّي سنة ثمانين أو إحدى و ثمانين و واصل ولد في سنة ثمانين»(2).
5 ـ وقال القاضي أيضاً: «فأمّا أبو هاشم عبدالله بن محمّد بن عليّ، فلو لم يظهر علمه و فضله إلاّ بما ظهر عن واصل بن عطاء لكفى، وكان يأخذ العلم عن أبيه.
فكان واصل بما أظهر بمنزلة كتاب مصنّفه أبو هاشم، وذكر قوله فيه. وكذلك أخوه، فإنّ غيلان يقال إنّه أخذ العلم من الحسن بن محمّد بن الحنفيّة أخي أبي هاشم»(3).
6 ـ وقال الشهرستاني: «يقال أخذ واصل عن أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة»(4).
7 ـ وقال ابن المرتضى: «وسند المعتزلة لمذهبهم أوضح من الفلق، إذ يتّصل إلى واصل و عمرو اتّصالاً شاهراً ظاهراً. وهما أخذا عن محمّد بن علي بن أبي طالب وابنه أبي هاشم عبدالله بن محمد، ومحمّد هو الذي ربّى واصلاً و علّمه حتّى تخرّج واستحكم. ومحمّد أخذ عن أبيه عليّ بن أبي طالب ـعليه السلامـ عن رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم». فهذا سند واضح مثل فلق الصبح



 
ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين للبلخي: ص 68.
ذكر المعتزلة للكعبي: ص 64.
طبقات المعتزلة: ص 234.




 
المصدر نفسه: ص 164.
أمالي المرتضى: ج 1، ص 164 ـ 165.
 طبقات المعتزلة: ص 226.
الملل والنحل: ج 1 ص 49.


8 ـ وقال أيضاً: «ومن أولاد عليّ ـعليه السلامـ أبو هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وهو الّذي أخذ عنه واصل وكان معه في المكتب فأخذ عنه و عن أبيه، وكذلك أخوه الحسن بن محمّد اُستاذ غيلان و يميل إلى الإرجاء»(1).
9 ـ وقال ابن أبي الحديد: «إنّ أشرف العلوم هوالعلم الإلهي، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم و معلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم و من كلامه (عليّ عليه السلام) اقتبس و عنه نقل، ومنه ابتدأ وإليه انتهى. فإنّ المعتزلة ـ الّذين هم أهل التوحيد والعدل و أرباب النظر، ومنهم تعلّم الناس هذا الفنّ ـ تلامذته و أصحابه، لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة. وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه عليه السلام»(2).
10 ـ وقال المرتضى في أماليه: «اعلم أنّ اُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ و خطبه، فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه ولا غاية وراءه، و من تأمّل المأثور في ذلك من كلامه، علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعد في تصنيفه و جمعه، إنّما هو تفصيل لتلك الجمل و شرح لتلك الاُصول، وروي عن الأئمّة (من أبنائه ـ عليهم السلام ـ) من ذلك ما يكاد لا يحاط به كثرة، ومن أحبّ الوقوف عليه و طلبه من مظانّه أصاب منه الكثير الغزير الّذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة، ونتاج للعقول العقيمة»(3).
11 ـ وقال القاضي عبدالجبّار: «وهذا المذهب ـ أعني صاحب الكبيرة لايكون مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً بل يكون فاسقاً ـ أخذه واصل بن عطاء عن أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وكان من أصحابه»(4).


 
المنية والأمل: ص 5 ـ 6 وص 11.
الشرح الحديدي: ج 1 ص 17.
أمالي المرتضى: ج 1 ص 148.
شرح الاُصول الخمسة: ص 138


12 ـ وقال الدكتور حسن إبراهيم حسن: «فقد نسبت المعتزلة عقائدها إلى عليّ ابن أبي طالب، و قلّما نجد كتاباً من كتبهم و على الأخصّ كتب المتـأخّرين منهم إلاّادّعوا فـيه أنّهُ ليس ثمّة مؤسّس لمذهب الاعـتزال و علم الكـلام غير الإمام عليّ ـ عليه السلام ـ »(1).
13 ـ يقول محقّق كتاب شرح الاُصول الخمسة: «ويؤكّد المعتزلة أنّهم تلقّوا هذه الاُصول عن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويذكرون سندهم في ذلك و نحن نثبت فيما يلي هذاالسند ـ كما على أوّل ورقة من شرح الاُصول(2) ـ تعليق الفرزاذي .
يقول:أخذهذه الاُصول من الفقيه الإمام الأوحد نجم الدين أحمد بن أبي الحسين الكني، وهو عنالفقيه الإمام الأجلّ محمّد بن أحمد الفرزاذي، وهو عن عمّه الشيخ السعيد البارع إسماعيل بن عليّ الفرزاذي، وهو عن محمّد بن مزدك، وهو عن أبي محمّد بن متّويه، وهو عن الشيخ أبي رشيد النيسابوري، وهو عن قاضي القضاة عماد الدين عبد الجبار بن أحمد ـ رحمه الله ـ وهو عن الشيخ المرشد أبي عبدالله البصري، و هو عن الشيخ أبي علي ابن خلاّد، و هو عن الشيخ أبي هاشم و هو عن أبيه الشيخ أبي علي الجبائي وهو عن أبي يعقوب الشحام، وهو عن عثمان الطّويل، وهو عن الشيخ أبي الهذيل، وهو عن واصل ابن عطاء، وهو عن أبي هاشم (3)محمّد بن الحنفية، وهو عن أبيه أمير المؤمنين عليّ ـعليه السلامـ وهو عن خير الأوّلين والآخرين و خاتم النبيّين محمد المصطفى ـ صلوات اللّه عليه ـ وهو عن جبرئيل ـعليه السلامـ وهو عن الله تعالى وليس لأحد من أرباب المذاهب مثل هذا الإسناد(4). أفبعد هذه التصريحات يبقى شكّ في أنّ المعتزلة في اُصولهم عالة لعلوم أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ .


 
تاريخ الاسلام: ج 2، ص 156، الطبعة السابعة.
النسخة المخطوطة.
وفي العبارة سقط والصحيح: «عبدالله بن محمد عن أبيه».
مقدمة شرح الاُصول الخمسة ص 24.


وسيوافيك التصريح من القاضي عبد الجبّار أنّ اُصول الاعتزال ترجع إلى أصلين : التوحيد والعدل، وأمّا الاُصول الثّلاثة فهي داخلة تحت الأصلين وقد عرفت أنّ المعتزلة أخذت الأصلين من أئمّة أهل البيت ـعليهم السلام ـ.
14ـ وقال أبو سعيد بن نشوان الحميري(ت573) إنّ لمذهب المعتزلة أسانيد تتصل بالنبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و ليس لأحد من فرق الاُمة مثلهم، و لا يمكن لحضومهم دفعه و ذلك ان مذهبهم مستند إلى واصل بن عطاء و ان واصلا يستند إلى محمد بن علي بن أبي طالب و هو ابن الحنفيه، و إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي و ان محمد يسند إلى ابنه علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ و إن علياً يسند إلى النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم (1) .
15ـ و قال بن المرتضى: و سند مذهبهم أصح أسانيد أهل القبلة إذ يتصل إلى واصل و عمرو عن عبد الله بن محمد عن أبيه محمد بن علي بن الحنفيه عن أبيه علي ـعليه السلام ـ عنه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و ما ينطق عن الهوى (2).
كَلاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةً * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَه


 
الحور العين: 206.
البحر الزخار 1: 44.
الكلاميّة المختلفة، مدرسة فكريّة عقليّة، أعطت للعقل القسط الأوفر والسّهم الأكبر حتّى فيما لا سبيل له للقضاء فيه، ولها من نتائج الفكر والمعرفة ما شهد له التأريخ، ودلّت عليه كتب القوم و رسائلهم الباقية. وما نقله عنهم خصومهم و أعداؤهم. وباختصار، إنّه مذهب فكري كبير يزخر بمعارف حول المبدأ والمعاد، وبأنظار عقليّة أو تجريبيّة حول صحيفة الكون.
ومن المؤسف جدّاً أنّ هوى العصبيّة بل يد الخيانة و الجناية لعبت بكثير من مخلّفاتهم الفكريّة و أطاحت به فأضاعتها بالخرق و المزق و إن كان فيما بقى و ما كشفت عنه بعثة وزارة المعارف المصريّة إلى اليمن و نشرتها(1) كفاية لمن أراد التعرّف على المذهب عن لسان شيوخهم، ثمّ دراستها، وسنتلو عليك قائمة الكتب الباقية أو المنشورة في هذه الآونة الأخيرة عنهم، وبالنّظر إليها يعلم أنّ الباقي يشكل طفيفاً من الكثير المضاع ـ ومع ذلك ـ فهو يستطيع أن يرسم لنا معالم هذا المذهب بوضوح بحيث يغني عن المراجعة إلى كتب خصومهم و أعدائهم.
إنّ ضياع كتب المعتزلة في القرون السابقة وعدم تمكّن الباحثين عنها، ألجأهم في


 
1 . أصدرت دار الكتب المصرية عام 1967 قائمة المخطوطات العربية المصوّرة بالميكروفيلم من الجمهورية العربية اليمنية. كما قامت بنشر كتب القاضي عبد الجبار رئيس الاعتزال في اوائل القرن الخامس فطبعت منها كتاب شرح الاُصول الخمسة وكتاب المغني له أيضاً في أربعة عشر جزءاً وغيرهما.


كتابة عقائدهم و تحليل اُصولهم إلى الاعتماد على كتب الأشاعرة في مجال علم الكلام والملل و النحل، ومن الواضح جدّاً أنّ كثيراً من الخصوم ليسوا بمنصفين و موضوعيين وقد نسبوا إليهم ما لا يوافق الاُصول الموثوق بها(1).
إنّ الدّراسة الموضوعيّة الهادفة تكلّف الباحث الرجوع إلى الكتب المؤلفة بيد أعلام المذاهب و خبرائه المعروفين بالحذق والوثاقة، والاعتماد على كتب الخصوم خارج عن أدب الجدل و رسم التحقيق.
بيد أنّنا نرى كثيراً من الكتّاب المعاصرين يعتمدون في تحليل عقائد الطّوائف الإسلاميّة على «مقالات الإسلاميّين» للشيخ الأشعري و «الفرق بين الفرق» لعبد القادر البغدادي و «الملل و النحل» للشهرستاني، وهؤلاء كلّهم من أعلام الأشاعرة و يرجع إليهم في الوقوف على التفكير الأشعري، وأمّا في غيره فلا يكون قولهم و نقلهم حجّة في حقّهم، إلاّ إذا طابق الأصل، فإنّ الكاتب مهما يكون أميناً ـ إذا كان في موقف الجدال والنِّقاش وحاول إثبات مقاله و تدمير مقالة الخصم ـ لا يصحّ الرُّكون إلى نقله، إلاّ إذا أتى بنصّ عبارة الخصم بلا تصرّف ولا تبديل. ومن المعلوم أنّ الكتب المؤلّفة في العصور الماضية لا تسير على هذا المنهاج، كما هو واضح لمن سبر.
إنّ من الظّلم البارز الاعتماد في تحليل عقائد الطّوائف الإسلاميّة على كتب ابن حزم الأندلسي (المتوفّى عام 456 هـ) وابن خلدون المغربي (المتوفّى عام 808 هـ) وغيرهما خصوصاً فيما كتبوه حول الشّيعة لبعدهم عن البيئة الشيعيّة و مؤلّفاتهم، ولذلك ترى فيها الخبط والخطاء...وهذا مبلغ علم الشهرستاني و اطّلاعه عنهم حيث يذكر الأئمّة الاثني عشر ويقول: إنّ عليّ بن محمّد النقي مشهده بقم(2) ويكفيك فيما ذكرناه ما قاله أحد معاصريه (أبو محمّد الخوارزمي) قال بعد ذكر مشايخه في الفقه


 
مثلاً نسب إليهم أنّهم لا يقولون بعذاب القبر مع أنّ القاضي في شرح الاُصول الخمسة ص 732 يقول: إنّ المعتزلة تقول بعذاب القبر ولا تنكره قال: وأمّا فائدة عذاب القبر وكونه مصلحة للمكلّفين فإنّهم متى علموا أنّهم إن أقدموا على المقبحات وأخلوا بالواجبات عذِّبوا في القبر... وسيأتي البحث عنه في محلّه.
الملل والنحل: ج 1 ص 169.


واُصوله والحديث: «ولولا تخبّطه في الاعتقاد وميله إلى الالحاد لكان هو الإمام، وكثيراً ما كنّا نتعجّب في وفور فضله وكمال عقله و كيف مال إلى شيء لا أصل له و اختار أمراً لا دليل عليه لا معقولاً ولا منقولاً ونعوذ بالله من الخذلان والحرمان من نور الإيمان»(1).
اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال وما فيه من الخطوط والاُصول في الكون وحياة الإنسان و اختياره و حرّيتة، ولقد أعجبتهم فكرتهم في أفعال العباد وصار ذلك سبباً لاهتمام الجدد من أهل السنّة و بالأخص المصريّين منهم إلى دراسة مذهبهم و نشر كتبهم و تقدير فكرتهم و الدّفاع عنهم قدر الامكان وردّ الاعتبار إليهم.
ولأجل ذلك نشرت في العهد القريب كتب تتناول البحث عن ذلك المذهب مثل:
تأريخ الجهمية والمعتزلة: لجمال الدين القاسمي الدمشقي، طبع في القاهرة عام 1331 هـ.
المعتزلة: تأليف زهدي حسن جار اللّه طبع في القاهرة عام 1366 هـ، وهي رسالة تبحث في تأريخ المعتزلة و عقائدهم و أثرهم في تطوّر الفكر الإسلامي. قدّمها مؤلّفها إلى دائرة التأريخ العربي في كلّية العلوم والآداب بجامعة بيروت الأمريكيّة. ونال عليه رتبة اُستاذ في العلوم وله في الكتاب مواقف موضوعيّة.
3 ـ فجر الإسلام: لأحمد أمين المصري، الفصل الرابع، ص 283 ـ 303.
4 ـ ضحى الإسلام: له أيضاً، الفصل الأوّل ص 21 ـ 107.
5 ـ تأريخ المذاهب الإسلاميّة: تأليف محمّد أبو زهرة فصل القدريّة، ص123 ـ 179.


 
1 . معجم البلدان: ج 3 ص 377 ط بيروت دار احياء التراث العربي مادة شهرستان.


6 ـ فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة: تحقيق فؤاد السيّد، نشرته الدار التونسيّة للنشر، عام 1406 هـ، الطبعة الثّانية، وهو يضمّ كتباً ثلاثة لأئمّة الاعتزال: أبي القاسم البلخي، والقاضي عبد الجبّار، و الحاكم الجشمي، والكتاب مزدان بتحقيقات نافعة.
وهذه العناية الكبيرة المؤكّدة من أبناء الأشاعرة لبيان تأريخ المعتزلة و عقائدهم وإظهار الأسف و الأسى لذهاب ثروتهم العلميّة، و إنشاء بعثة علميّة لأخذ الصّور من مخلّفاتهم الخطّية المبعثرة في بلاد اليمن والقيام بنشرها، عمل مبارك وجهد مقدّر، لكن أثاره أبناء الاستشراق في نفوس هؤلاء. هذا هو (آلفرد جيوم) اُستاذ الدراسات الشّرقية في جامعة لندن يقول :
«إنّ ما انتهى إلينا من كتابات رجال الاعتزال قليل جدّاً إلى حدّ أنّنا مضطرّون إلى أن نعتمد على ما يقوله مخالفوهم عنهم، وقد كانوا يحملون لهم ذكريات مريرة لما قام به المعتزلة من أعمال تعسّفيّة لذلك، فإنّ أملنا لكبير، إذا كانت مكتبات الشيعة في اليمن أو في غير اليمن تحوي مخطوطات من أصل معتزلي أن نقوم بنشرها. هذا، وإنّ اُولئك الّذين يرغبون في الوقوف على نتاج العقل العربي في عصور الخلافة الذّهبية، يحسنون صنعاً إذا أقدموا على درس هذه الرسالة اللمّاعة في تأريخ حركة عظيمة في حركات الفكر العربي»(1).
وهذا «شتيز» المستشرق وصفهم بأنّهم المفكِّرون الأحرار في الاسلام، وألّف كتاباً بهذا الاسم.
ووصفهم «آدم ميت» و«هاملتون» بأنّهم دعاة الحريّة الفكرية والاستنارة (2).
وقال «جولد تسيهر»: «إنّ المعتزلة وسّعوا معين المعرفة الدينية بأن أدخلوا فيها عنصراً مهمّاً آخر قيّماً وهو العقل الّذي كان حتّى ذلك الحين مبعداً بشدّة عن هذه


 
من مقدمة كتاب المعتزلة، تأليف زهدي حسن جار الله، قدّم له «آلفرد جيوم» اُستاذ الدراسات الشرقية في جامعة لندن. عام 1947 م = 1366 هـ.
أدب المعتزلة: ص 172.


الناحية»(1).
وربّما يرد على الأخير بأنّه تجاسر على قلب الحقائق مسقطاً الواقع الّذي يثبت اجتهاد الرّسول و الصّحابة والتابعين... وكتب السنّة و السيرة والتّاريخ والفقه والخلاف والمقارنات الفقهيّة حافلة بما يؤيِّد اجتهادهم وتعويلهم على العقل.
يلاحظ عليه: أنّ كلام هذا الرادّ أقرب إلى قلب الواقع ممّا ذكره «جولد تسيهر» ذلك المستشرق الحاقد على الإسلام و نبيّه، وذلك لأنّ أهل الحديث والحنابلة ينكرون الحسن والقبح العقليّين، وإنكار ذلك مساوق لإنكارّ كثير من المعارف الدينيّة، والمعارف الدينيّة عندهم قائمة على السنّة فقط، و أحيانا على الكتاب. وأمّا العقل فهو محكوم عندهم بالاعدام، حتّى أنّ طريق الإمام أبي الحسن الأشعري غير مقبول لدى أهل الحديث والحنابلة ولأجل ذلك ما ذكروه في طبقاتهم، قائلين بأنّ الشيخ الأشعري يستدلّ على العقائد، مكان أن يعتمد فيها على الحديث والسنّة.
وأمّا الاعتماد على العقل في الفقه، فلو اُريد منه القياس والاستحسان فهو من قبيل العقل الظنّي الذي لا يغني من الحقّ شيئاً، و إن اُريد منه الحكم القطعي من العقل، فهو مبنيّ على التّحسين والتقبيح العقليين، وأهل الحديث والحنابلة حتّى الأشاعرة ينكرون إمكان هذا الادراك العقلي.
هذا وللمستشرقين كلمات اُخر في تحسين منهج الاعتزال ضربنا عنها صفحاً.
إنّ أحمد أمين (الكاتب الشهير المصري) مع أنّه لم يقف من كتب المعتزلة إلاّ على الأقل القليل كالانتصار لأبي الحسين الخيّاط (م 311)، والكشّاف للزمخشري(م538)، وبعض كتب الجاحظ (م 255) وقد اعتمد في نقل عقائد المعتزلة


 
1 . المعتزلة بين العمل والفكر:ص 103، تأليف: علي الشابي، أبو لبابة حسن، عبد المجيد النجار. طبع الشركة التونسية.


على كتب الأشاعرة كمقالات الإسلاميين للشيخ الأشعري (م 324)، ونهاية الاقدام للشهرستاني (م 548)، والاقتصاد للغزالي (م 505)، والمواقف للعضدي (م 775) إلى غير ذلك، وهؤلاء كلّهم أعداء المعتزلة ولا يستطيعون تقرير مواقف خصومهم في المسائل مجرّدين عن كلّ انحياز، ـ مع أنّه لم يقف ـ تأثّر كثيراً بمنهج الاعتزال تبعاً لأساتذته الغربيّين، ولولاهم لما خرج الاُستاذ أحمد أمين عمّا حاكت عليه البيئة المصريّة الأشعريّة من الشباك الفكري قدر أنملة، ولا بأس بنقل جمل من إطرائه للمعتزلة في فصول مختلفة.
1 ـ يقول حول توحيد المعتزلة و تنزيههم: «وقد كانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السموّ والرفعة، فطبّقوا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) أبدع تطبيق، وفصّلوه خير تفصيل وحاربوا الأنظار الوضعيّة من مثل أنظار الّذين جعلوا الله تعالى جسماً»(1).
2 ـ يقول حول نظريّتهم في حرّية العباد: «وقالت المعـتزلة بحرّية الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته حتّى جعلوه كالريشة في مهبّ الريح أو كالخشـبة في إليمّ. وعندي أنّ الخطأ في القول بسلطان العقل و حرّية الإرادة والغلوّ فيهما خير من الغلوّ في أضدادهما، وفي رأيي أنّه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى إليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التأريخ غير موقفهم الحالي وقد أعجزهم التسليم وشلّهم الجبر وقعد بهم التّواكل»(2).
3 ـ يقول في حقّ إبراهيم بن سيّار المعروف بالنظّام، الشخصيّة الرابعة بين المعتزلة بعد واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلاف، اُستاذ الجاحظ وقد توفّي عام 231: «أمّا ناحيته العقليّة ففيها الركنان الأساسيّان اللّذان سبّبا النهضة الحديثة في أروبا وهما الشكّ والتجربة، وأمّا الشكّ فقد كان يعتبره النظّام أساساً للبحث فكان يقول: الشاكّ أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قطّ حتّى صار فيه شكّ، ولم


 
1 . ضحى الاسلام: ج 3، ص 68.
2 . نفس المصدر : ج 3، ص 70.


ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتّى يكون بينهما حال شك.
وأمّا التجربة فقد استخدمها كما يستخدمها الطبيعي أو الكيمياوي اليوم في معمله»(1).
وقال أحمد أمين في مقال خاصّ تحت عنوان «المعتزلة والمحدثون»:
كان للمعتزلة منهج خاصّ أشبه ما يكون بمنهج من يسمّيهم الإفرنج العقليين، عمادهم الشكّ أوّلاً والتجربة ثانياً، والحكم أخيراً. وللجاحظ فى كتابه «الحيوان» مبحث طريف عن الشكّ، وكانوا وفق هذا المنهج لا يقبلون الحديث إلاّ إذا أقرّه العقل، ويؤوّلون الآيات حسب ما يتّفق والعقل كما فعل الزمخشري في الكشّاف، ولا يؤمنون برؤية الإنسان للجنّ لأنّ الله تعالى يقول: (إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) ويهزأون بمن يخاف من الجنّ، ولا يؤمنون بالخرافات والأوهام، و يؤسّسون دعوتهم إلى الإسلام حسب مقتضيات العقل و فلسفة اليونان، ولهم في ذلك باع طويل، ولا يؤمنون بأقوال أرسطو لأنّه أرسطو، بل نرى في « الحيوان » أنّ الجاحظ يفضّل أحياناً قول أعرابيّ جاهلي بدويّ على قول أرسطو الفيلسوف الكبير.
هكذا كان منهجهم، وهو منهج لا يناسب إلاّ الخاصّة، ولذلك لم يعتنق الاعتزال إلاّ خاصّة المثقّفين، أمّا العوام فكانوا يكرهونه.
ويقابل هذا المنهج منهج المحدِّثين، وهو منهج يعتمد على الرواية لا على الدراية، ولذلك كان نقدهم للحديث نقد سند لا متن، ومتى صحّ السند صحّ المتن ولو خالف العقل، وقلّ أن نجد حديثاً نُقد من ناحية المتن عندهم، و إذا عُرض عليهم أمر رجعوا إلى الحديث ولو كان ظاهره لا يتّفق والعقل، كما يتجلّى ذلك في مذهب الحنابلة.
وكان من سوء الحظّ أن تدخل المعتزلة في السياسة ولم يقتصروا على


 
1 . ضحى الاسلام: ج 3، ص 112.


الدين، والسياسة دائماً شائكة، فنصرهم على ذلك المأمون والواثق والمعتصم، وامتحنوا النّاس وأكرهوهم على الاعتزال، فكرههم العامّة واستبطلوا الإمام ابن حنبل الّذي وقف في وجههم، فلمّا جاء المتوكّل انتصر للرأي العام ضدّهم، وانتصر للإمام أحمد بن حنبل على الجاحظ وابن أبي دوآد وأمثالهما، و نكّل بهم تنكيلاً شديداً، فبعد أن كان يتظاهر الرجل بأنّه معتزلي، كان الرجل يعتزل ويختفي حتّى عدّ جريئاً كلّ الجراءة الزمخشري الّذي كان يتظاهر بالاعتزال و يؤلّف فيه، ولم يكن له كلّ هذا الفضل، لأنّه أتى بعد هدوء الفورة الّتي حدثت ضدّ الاعتزال.
فلنتصوّر الآن ماذا كان لو سار المسلمون على منهج الاعتزال إلى اليوم؟. أظنّ أنّ مذهب الشكّ و التجربة وإليقين بعدهما كان يكون قد ربى و ترعرع و نضج في غضون الألف سنة الّتي مرّت عليه، وكنّا نفضّل الأروبيّين في فخفختهم و طنطنتهم بالشكّ و التجربة الّتي ينسبانها إلى «بيكن» مع أنّه لم يعمل أكثر من بسط مذهب المعتزلة. وكان هذا الشكّ و هذه التّجربة مما يؤدّي حتماً إلى الاختراع و بدل تأخّر الاختراع إلى ما بعد بيكن وديكارت، كان يتقدم مئات من السنين، وكان العالم قد وصل إلى ما لم يصل إليه إلى اليوم، وكان وصوله على يد المسلمين لا على يد الغربيّين، وكان لا يموت خلق الابتكار في الشرق و يقتصر على الغرب.
فقد عهدنا المسلمين بفضل منهج المحدِّثين يقتصرون على جمع متفرّق أو تفريق مجتمع، وقلّ أن نجد مبتكراً كابن خلدون الّذي كانت له مدرسة خاصّة، تلاميذها الغربيّون لا الشرقيون.
فالحقّ أن خسارة المسلمين بإزالة المعتزلة من الوجود كانت خسارة كبرى لاتعوّض.
ثمّ بدأ المسلمون ينهجون منهج الحضارة الغربيّة تقليداً من الخارج لا بعثاً من الداخل، وشتّان ما بينهما، فالتقليد للخارج بثّ فيهم ما يسمّيه علماء النفس مركب النقص، فهم يرون أنّهم عالة على الغربيّين في منهجهم، ولو كان من أنفسهم لاعتزّوا به وافتخروا، ولكن ما قُدّر لا بدّ أن يكون، ولله في خلقه شؤون»(1).
هذا بعض ما تأثّر به الاُستاذ المصري بمنهج الاعتزال فأطلق قلمه بمدحهم، ولكن لـمّا وقف في غضون التأريخ على أنّ المعتزلة تربّت في أحضان البيت العلوي و أنّ واصل بن عطاء مؤسّس المنهج تتلمذ على أبي هاشم بن محمّد الحنفيّة، وأنّهم أخذوا التوحيد والعدل من الاُصول الخمسة من خطب الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ثارت ثورته وثقل عليه البحث لما يكنّه في نفسه من عداء وحقد للشيعة وأئمّتهم فانبرى لتحريف التأريخ و إسدال الستر على الحقيقة و إنكار كون الأصل لبعض اُصول المعتزلة هو البيت العلوي. ولنا معه في ذلك الفصل بحث ضاف فانتظر. هذا والكلام حول هذه الطائفة يأتي في فصول:


 
 رسالة الإسلام التي تصدرها «دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة» بالقاهرة: العدد الثالث من السنة الثالثة.


لقد شغل بال الباحثين من المسلمين و المستشرقين سبب تسمية هذه الطّائفة بالمعتزلة، فاختار كلّ مذهباً، ونحن نأتي بجميع الآراء أو أكثرها على وجه الاجمال، مع التّحليل والقضاء بينها.
قال أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث في كتابه «فرق الشيعة» عندالبحث عن الأحداث الواقعة بعد قتل عثمان: «فلمّا قُتِل بايع الناس عليّاً فسمّوا الجماعة، ثمّ افترقوا بعد ذلك و صاروا ثلاث فرق: فرقة أقامت على ولايته ـ عليه السلام ـ، وفرقة خالفت عليّاً وهم طلحة والزبير و عائشة، وفرقة اعتزلت مع سعد بن مالك وهو سعدبن أبي وقّاص، وعبدالله بن عمر بن الخطّاب، ومحمّد بن مسلمة الأنصاري، واُسامة بن زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم فإنّ هؤلاء اعتزلوا عن علي ـعليه السلامـ وامتنعوا عن محاربته والمحاربة معه بعد دخولهم في بيعته والرضا به. فسمّوا المعتزلة، وصاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد، وقالوا: لا يحلّ قتال عليّ ولاالقتال معه.
وذكر بعض أهل العلم أنّ الأحنف بن قيس التميمي اعتزل بعد ذلك في خاصّة


قومه من بني تميم لا على التديّن بالاعتزال. ولكن على طلب السلامة في القتل و ذهاب المال وقال لقومه: اعتزلوا الفتنة أصلح لكم».
وذكر(1) نصر بن مزاحم المنقري أنّ المغيرة بن شعبة كان مقيماً بالطّائف لم يشهد صفّين. فقال معاوية: يا مغيرة: ما ترى؟ قال: يا معاوية لو وسعني أن أنصرك لنصرتك، ولكن عليّ أن آتيك بأمر الرجلين (أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص) فركب حتّى أتى دومة الجندل، فدخل على أبي موسى كأنّه زائر له، فقال: يا أبا موسى! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر و كره الدماء؟ قال: اُولئك خيار الناس خفّت ظهورهم من دمائهم و خمصت بطونهم من أموالهم.
ثمّ أتى عمراً فقال: يا أبا عبدالله ! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟
فقال: اُولئك شرّ الناس لم يعرفوا حقّاً ولم ينكروا باطلا(2).
غير أنّ شيوخ المعتزلة يردّون هذه الرواية ولا يقيمون لها وزناً. بل يقول البلخي: «ومن الناس من يقول سمّوا معتزلة لاعتزالهم عليّ بن أبي طالب في حروبه، وليس كذلك، لأنّ جمهور المعتزلة بل أكثرهم إلاّ القليل الشاذّ منهم يقولون إنّ عليّاً ـعليه السلامـ كان على صواب، وإنّ من حاربه فهو ضالّ و تبرّأوا ممّن لم يتب عن محاربته ولا يتولّون أحداً ممّن حاربه إلاّ من صحّت عندهم توبته منهم، و من كان بهذه الصفة فليس بمعتزل عنه ـعليه السلامـ ولا يجوز أن يسمّى بهذا الاسم»(3).
أقول: لولا أنّ النوبختي ذكر بعد نقل هذه الرواية قوله: «وأنّهم صاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد» لأمكن المناقشة في كونه وجه التسّمية، و أنّ الاعتزال بالطابع الفكري والعقلي كان استمراراً للاعتزال بطابعه السياسي. إذ من الممكن أن تستعمل كلمة واحدة في طائفتين يجمعهما جامع وهو العزلة وترك الجماعة. فهؤلاء الّذين خذلوا


 
1 . فرق الشيعة: ص 5 طبع النجف عام 1355 هـ.
وقعة صفين ص 620 ـ 621 طبع مصر.
فضل الاعتزال ص 13 ـ 14.


عليّاً بترك البيعة والحرب معه ضدّ الناكثين والقاسطين معتزلون، كما أنّ واصل بن عطاء و تلاميذه معتزلون لأجل تركهم مجلس درس اُستاذه و تلاميذه كما يأتي في الرواية الاُخرى. واطلاق كلمة واحدة على الطائفتين اللّتين لهما طابعان مختلفان لا يدلّ على أنّ الطائفة الثانية هي استمرار للاُولى. و إنّما يمنعنا عن ردّ هذه النّظرية على وجه القطع هو صراحة كلام النوبختي في ذلك.
وهناك رواية اُخرى تدلّ على أنّ تسميتهم بهذا اللّقب لاعتزالهم عن الحسن بن عليّ و معاوية، نقله الملطي (المتوفّى عام 373) في «التنبيه والردّ» واستحسنه الكوثري(1) وحسب أنّه وقف على أمر بديع. يقول الملطي: «وهم سمّوا أنفسهم معتزلة وذلك عندما بايع الحسن بن عليّ ـ عليهما السلام ـ معاوية وسلّم إليه الأمر اعتزلوا الحسن بن علي و معاوية و جميع الناس، وذلك أنّهم كانوا من أصحاب علي ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا نشتغل بالعلم والعبادة و سمّوا بذلك معتزلة»(2).
أقول: هذا الرأي قريب من جهة، لأنّ المعتزلة أخذوا تعاليمهم في التوحيد والعدل عن عليّ ـعليه السلامـ كما سيأتي، فليس ببعيد أن يرجع وجه التسمية إلى زمن تصالح الإمام الحسن ـ عليه السلام ـ مع معاوية.
ومع ذلك كلّه، يمكن أن يقال فيه مثل ما قلناه في النظرية السابقة، وهو أنّه كانت طائفتان مختلفتان لا صلة بينهما سوى الاشتراك الاسمي، ظهرت إحداهما بعد صلح الحسن ـعليه السلامـ وكان لها طابع سياسي، وظهرت الاُخرى في زمن الحسن البصري عند اعتزال واصل عن حلقة بحثه كما سيأتي بيانه، لها طابع عقلي.
وهناك إشكال آخر يتوجّه على رواية الملطي حيث قال: «وهم سمّوا أنفسهم


 
1 . تعليق «تبيين كذب المفتري» ص 10.
2 . التنبيه والرد ص 26.


معتزلة» وهو أنّ لفظ الاعتزال ليس لفظاً يعرب عن المنهج حتّى يطلقوا هذا الاسم على أنفسهم، إن لم يكن فيه دلالة على ذمّ ما.
وهناك رواية ثالثة رواها ابن دريد يتحدّث عن بني العنبر قال: «ومن رجالهم في الإسلام عامر بن عبدالله يقال له عامر بن عبد قيس، وكان عثمان بن عفّان كتب إلى عبدالله بن عامر أن يسيّره إلى الشام، لأنّه يطعن عليهم وكان من خيار المسلمين وله كلام في التوحيد كثير، وهو الّذي اعتزل الحسن البصري فسمّوا المعتزلة»(1).
وروى أبو نعيم بالإسناد عن الحسن البصري أنّه قال: «كان لعامر بن عبدالله بن عبد قيس مجلس في المسجد فتركه حتّى ظننّا أنّه قد ضارع أصحاب الأهواء، قال: فأتيناه فقلنا له: كان لك مجلس في المسجد فتركته؟ قال: أجل، إنّه مجلس كثير اللغط والتّخليط، قال: فأيقّنا أنّه قد ضارع أصحاب الأهواء، فقلنا: ما تقول فيهم؟ قال: وما عسى أن أقول فيهم ... الخ» ، ونقل أبو نعيم الاصفهاني أيضاً أنّه عتب أبو موسى الأشعري(2) عامربن عبد قيس اعتزاله مجلسه الّذي اعتاده في المسجد، فكتب إليه قائلاً:
«فإنّي عهدتك على أمر وبلغني أنّك تغيّرت فاتّق الله و عد»(3).
وقال المعلِّق على كتاب «فضل الاعتزال»: إذا كان ابن دريد و أبو نعيم لم يحدّدا لنا زمن اعتزال عامر بن عبد قيس، فمن الممكن أن نستنتج أنّه تمّ في خلال تسع سنوات من سنة 35 وهو تأريخ اعتزال جماعة سعد بن أبي وقّاص إذ عناهم الحسن البصري في حديثه، إلى سنة 44 وهو تأريخ وفاة أبي موسى الأشعري إذ أفاد أبو نعيم أنّه عاتب عامر لاعتزاله مجلسه».


 
الاشتقاق ج 1 ص 213 كما في تعاليق «فضل الاعتزال» ص 15.
كان أبو موسى والي الكوفة أواخر خلافة عثمان إلى عام 36، حتّى عزله علي ـ عليه السلام ـ لأجل قعوده عن نصرة الامام.
حلية الأولياء: ج 2 ص 93 ـ 95.


يلاحظ عليه: أنّ الحسن البصري ولد بالمدينة عام (21)، ثمّ سكن البصرة وتوفّي عام (110)، فمن البعيد أن يكون له مجلس بحث في المسجد وهو من أبناء العشرين أو دونه، فلو صحّ ما حدّده المعلّق من زمن الاعتزال يلزم أن يكون له مجلس بحث في المسجد بين أعوام 35 ـ 44، ويكون عامر بن عبدالله الشخصيّة المعروفة أحد حضّار بحثه، وقد قدّر الزركلي في كتابه «الأعلام» وفاة عامر نحو سنة (55)(1).
ثمّ إنّ عتب أبي موسى لا يصحّ أن يكون في خلال تسع سنوات بين أعوام 35 ـ 44 لأنّه عزل عن الولاية عام 36 و غادر الكوفة ولم يرجع إليها، ولـمّا أصدر حكمه الجائر في دومة الجندل ضدّ عليّ ـ عليه السلام ـ خاف من انتفاضة الناس و ثورتهم عليه، وغادرها إلى مكّة المكرّمة ومات بها عام 43 أو 44. ولو صحّ عتابه لكان قبل سنة 36، وهذا يستلزم أن تكون للحسن حلقة بحث في أوان البلوغ، وهو بعيد، مع وجود وجوه الصّحابة وأكابر التّابعين في الكوفة.
ثمّ لو صحّت الرواية لما صحّ أن يكون عامر بن عبدالله، المؤسّس الأوّل لمذهب الاعتزال و إن استعمل في حقّه كلمة الاعتزال، لأنّ كلمة الاعتزال في تلك العصور كانت رمزاً للتخلّف عن الفكرة السائدة على المجتمع، فمن خالف الفكرة و انحاز عنها، أطلق على فعله الاعتزال و على نفسه المعتزل، ازدراءً به، وتلك الكلمة بمنزلة الرجعية في أعصارنا هذه، و ما جاء في تلك الروايات إشارة إلى أنّ هؤلاء اعتزلوا عن السياسة السائدة على المجتمع كما في اعتزال سعدبن أبي وقّاص و نظائره. أو اعتزال جماعة عن الحسن بن عليّ ـ عليهما السلام ـ أو عن الفكرة الدينيّة كما في الرواية الثالثة. والحقّ في التسمية ما نذكره في القول الرابع وقد تواتر نقله.
قد عرفت أنّ حكم مرتكب الكبيرة قد أوجد ضجّة كبيرة في الأوساط الإسلاميّة


 
الأعلام: ج 4 ، ص 21.


في عصر عليّ ـ عليه السلام ـ وبعده، حيث عدّ الخوارج مرتكب الكبيرة كافراً، كما عدّه غيرهم مؤمناً فاسقاً، وعدّت المرجئة من شهد بالتوحيد والرسالة لساناً أو جناناً مؤمناً. وقد أخذت المسألة لنفسها مجالاً خاصّاً للبحث عدّة قرون. وكان للمسألة في زمن الحسن البصري دويّ خاصّ.
نقل الشهرستاني أنّه دخل واحد على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضرّ مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، ولا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الاُمّة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟
فتفكّر الحسن في ذلك و قبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن و لا كافر. ثمّ قام و اعتزل إلى اسطوانة المسجد يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة(1).
و ربّما نسبت هذه الواقعة بشكل آخر إلى «عمرو بن عبيد». قال ابن خلّكان في ترجمة قتادة السدوسي: «كان قتادة من أنسب الناس كان قد أدرك ذعفلاً و كان يدور البصرة أعلاها و أسفلها بغير قائد فدخل مسجد البصرة، فإذا بعمرو بن عبيد و نفر معه قد اعتزلوا من حلقة الحسن البصري و حلّقوا و ارتفعت أصواتهم، فأمّهم وهو يظن أنّها حلقة الحسن، فلمّا صار معهم عرف أنّها ليست هي. فقال: إنّما هؤلاء المعتزلة، ثمّ قام عنهم فمذ يومئذ سمّوا المعتزلة»(2).
وتظهر تلك النّظرية من الشيخ المفيد في «أوائل المقالات» حيث قال: «وأمّا المعتزلة وما وسمت به من اسم الاعتزال، فهو لقب حدث لها عند القول بالمنزلة بين المنزلتين، وما أحدثه واصل بن العطاء من المذهب في ذلك ونصب من الاحتجاج له،


 
    الفرق بين الفرق: ص 21، وفي ذيل عبارته ما يدل على أنّ تسميتهم بها لأمر آخر سيوافيك بيانه.
  وفيات الأعيان ج 4 ص 85 رقم الترجمة 541.


فتابعه عمرو بن عبيد، ووافقه على التديّن به من قال بها و من اتّبعهما عليه، إلى اعتزال الحسن البصري و أصحابه والتحيّز عن مجلسه فسمّاهم الناس المعتزلة لاعتزالهم مجلس الحسن بعد أن كانوا من أهله و تفرّدهم بما ذهبوا إليه من هذه المسألة من جميع الاُمّة وسائر العلماء ولم يكن قبل ذلك يعرف الاعتزال ولا كان علماً على فريق من الناس»(1).
ولولا قوله: «وتفرّدهم بما ذهبوا إليه في هذه المسألة من جميع الاُمّة و سائر العلماء» لكان نصّاً في هذه النظرية، إلاّ أنّ هذا الذيل يمكن أن يكون إشارة إلى النظرية الأخرى الّتي ستبيّن.
قد نقل اعتزال واصل حلقة الحسن جماعة كثيرة، فنقلها المرتضى في أماليه ج 1 ص 167، والبغدادي في الفرق بين الفرق ص 118، والشهرستاني في الملل و النحل ج 1 ص 48، وابن خلكان في وفيات الأعيان ج 6 ص 8، والمقريزي في خططه ج 2 ص346.
وعلى كلّ تقدير فقد ناقش الدكتور «نيبريج» المستشرق هذه النظرّية بأنّه وردت تسمية هذه المدرسة بأهل الاعتزال بمن قال بالاعتزال، ولو كان معنى الكلمة ما زعموه لما جاز مثل هذه التسمية، ثم إنّ لها عدّة نظائر في عرف ذلك الزمان كالمرجئة يرادفها أهل الارجاء وهم الّذين قالوا بالإرجاء، والرافضة يرادفها أهل الرفض ومن قال بالرفض(2).
ولعلّ المناقشة في محلّها كما سيظهر مما ننقله عن المسعودي في النّظرية السادسة.
وهناك رأي خامس في تسميتهم بالاعتزال يظهر من شيخ المعتزلة أبي القاسم البلخي (م 317) يقول: «والسبب الّذي له سمّيت المعتزلة بالاعتزال; أنّ الاختلاف


 
أوائل المقالات ص 5 ـ 6.
مقدمة كتاب الانتصار لأبي الحسين الخياط ص 54.


وقع في أسماء مرتكبي الكبائر من أهل الصّلاة، فقالت الخوارج: إنّهم كفّار مشركون وهم مع ذلك فسّاق، وقال بعض المرجئة: إنّهم مؤمنون لإقرارهم بالله و رسوله و بكتابه و بما جاء به رسوله وإن لم يعملوا به، فاعتزلت المعتزلة جميع ما اختلف فيه هؤلاء وقالوا نأخذ بما اجتمعوا عليه من تسميتهم بالفسق وندع ما اختلفوا فيه من تسميتهم بالكفر والإيمان والنفاق و الشّرك، قالوا: لأنّ المؤمن وليّ الله، والله يجبّ تعظيمه و تكريمه وليس الفاسق كذلك، والكافر والمشرك و المنافق يجب قتل بعضهم و أخذ الجزية من بعض، وبعضهم يعبد في السرّ إلهاً غير الله، وليس الفاسق بهذه الصفة.
قالوا: فلمّا خرج من هذه الأحكام، خرج من أن يكون مسمّى بأسماء أهلها وهذا هو القول بالمنزلة بين المنزلتين أي الفسق منزلة بين الكفر والإيمان»(1).
و يظهر هذا من البغدادي أيضاً قال: «ومنها اتّفاقهم على دعواهم في الفاسق من اُمّة الإسلام بالمنزلة بين المنزلتين وهي أنّه فاسق لا مؤمن ولا كافر، ولأجل هذا سمّاهم المسلمون «معتزلة» لاعتزالهم قول الاُمّة بأسرها»(2) وفي الوقت نفسه نقل البغدادي، قصّة اعتزال «واصل» حلقة الحسن بنحو يوهم كون وجه التسمية هو اعتزال واصل مجلس الحسن. لاحظ ص 118.
ويظهر من ابن المرتضى تأييده. قال في ذيل كلامه: «سمّي و أصحابه معتزلة لاعتزالهم كلّ الأقوال المحدّثة و المجبّرة». ثمّ ردّ على من زعم أنّ إطلاق المعتزلة لمخالفتهم الاجماع بقوله: «لم يخالفوا الإجماع، بل عملوا بالمجمع عليه في الصدر الأوّل ورفضوا المحدثات المبتدعة»(3).
ويظهر هذا أيضاً من نشوان بن سعيد اليمني حيث قال:
«وسمّيت المعتزلة معتزلة لقولهم بالمنزلة بين المنزلتين وذلك أنّ المسلمين اختلفوا


 
باب ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين للبلخي ص 115.
 الفرق بين الفرق: ص 21 و 115، ط دار المعرفة.
المنية والأمل: لأحمد بن يحيى المرتضى ص 4 طبع دار صادر .


في أهل الكبائر فقالت الخوارج: هم كفّار مشركون، وقال بعض المرجئة: إنّهم مؤمنون، وقالت المعتزلة: لا نسمّيهم بالكفر و لا بالإيمان، ولا نقول إنّهم مشركون ولا مؤمنون بل فسّاق، فاعتزلوا القولين جميعاً و قالوا بالمنزلة بين المنزلتين فسمّوا بالمعتزلة»(1).
وهذه النظرية غير النظرية الماضية، فإنّ الاعتزال فيها كان وصفاً لنفس المعتزلة فهم اعتزلوا عن جميع ما اختلفت فيه من الآراء و أخذوا بالمتّفق عليه، ولكنّه في هذه النظرية وصف لمورد الخلاف، أعني الفاسق، فجعلوه معتزلاً عن الإيمان والكفر، فلا هو مؤٌمن ولا كافر، وتظهر تلك النّظرية من المسعودي في مروجه، قال في بيان الأصل الرابع من الاُصول الخمسة: «وأمّا القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو الأصل الرابع، فهو أنّ الفاسق المرتكب للكبائر ليس بمؤمن ولا كافر، بل يسمّى فاسقاً على حسب ما ورد التّوقيف بتسميته وأجمع أهل الصّلاة على فسوقه».
قال المسعودي: «وبهذا الباب سمّيت المعتزلة، وهو الاعتزال، وهو الموصوف بالأسماء والأحكام مع ما تقدّم من الوعيد في الفاسق من الخلود في النار»(2).
وقال أيضاً: «مات واصل بن عطاء ـ ويكنّى بأبي حذيفة ـ في سنة إحدى و ثلاثين و مائة وهو شيخ المعتزلة و قديمها، وأوّل من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو أنّ الفاسق من أهل الملّة ليس بمؤمن ولا كافر وبه سمّيت المعتزلة وهو الاعتزال»(3).
والدقّة في قوله: «وبه سمّيت...» (أي بعزل الفاسق عن الإيمان والكفر) تعطي أنّ وجه التسمية يعود إلى جعل الفاسق منعزلاً عنهما.

شرح رسالة الحور العين: ص 204 ـ 205.
مروج الذهب: ج 3، ص 222، ط بيروت دار الأندلس.
نفس المصدر : ج 4 ص 22، ط بيروت دار الأندلس.


وهناك نظريّة سابعة ذكرها أحمد أمين المصري في فجر الإسلام ص 344، ولكنّها من الوهن بمكان لم يرتضها هو نفسه في كتبه اللاحقة فلنضرب عنها صفحاً.
إلى هنا خرجنا بهذه النّتيجة أنّه لو كان أساس الاعتزال هو واصل بن عطاء أو عمرو بن عبيد، فتسميتهم بالمعتزلة، إمّا لاعتزال المؤسّس عن مجلس البحث أو باعتزاله عن الرأيين السائدين، أو لاعتقادهم بكون الفاسق منعزلاً عن الكفر والإيمان، وخروج مرتكب الكبيرة عن عداد المؤمنين والكافرين.
والعجب أنّ اُستاذ واصل كان يذهب إلى أنّه منافق، وأراد بذلك تخفيف أمره بالنسبة إلى الكافر، مع أنّ جزاء المنافق في الآخرة لو لم يكن أشدّ من الكافر ليس بأقلّمنه.
أرى أنّ إفاضة الكلام في تحقيق وجه التسمية أزيد من هذا خروج عن وضع الرسالة فلنرجع إلى سائر أسمائهم.
فقد ذكر ابن المرتضى لهم أسماء اُخر.
1 ـ العدليّة: لقولهم بعدل الله و حكمته.
2 ـ الموحّدة: لقولهم لا قديم مع الله (1).
ولأجل هذا يطلق على هذه الطّائفة أهل العدل و التوحيد، ولعلّهم يعنون بالعدل مضافاً إلى ما ذكر ابن المرتضى نفي القدر بالمعنى المستلزم للجبر، أو يريدون بذلك نفي كونه سبحانه خالقاً لأفعال العباد، إذ فيه الظلم والقبيح والجور، وأمّا التّوحيد فإنّهم يريدون منه نفي الصفات الزائدة القديمة، فإنّ في الاعتقاد بزيادة الصفات اعتراف بقدماء معه سبحانه، وتنزيهه سبحانه عن التشبيه و التجسيم،


 
المنية و الأمل ص 1.


وسيأتي أنّ هذين الأصلّين اللّذين يعدّان الرّكنين الأساسيين لمدرسة الاعتزال مأخوذان من خطب الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ.
3 ـ أهل الحق: المعتزلة يعتبرون أنفسهم أهل الحقّ، والفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة، وقد فرغنا الكلام عن هذا الحديث و تعيين الفرقة الناجية في الجزء الأوّل.
4 ـ القدرية: يعبّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة. والمعتزلة يطلقونها على خصمائهم، وذلك لما روي عن النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: أنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة. فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر عِدْل القضاء، فتنطبق على خصماء المعتزلة القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة، أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره و تمكّنه في إيجاده، فتنطبق ـ على زعم الخصماء ـ على المعتزلة لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث و ذكر كلّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها(1).
والحقّ أنّ المتبادر من الحديث هو القدريّة المنسوبة إلى القدر الّذي هو بمعنى التقدير، و إطلاقه على مثبت القدر كأهل الحديث والحنابلة متعيّن، إذ لا يطلق الشيء و يراد منه ضدّه.
فلو كان المراد منه المعتزلة يجب أن يراد منها نفي القدر. وقد روي عن زيد بن عليّ أنّه قال ـ حين سأله أبو الخطّاب عمّا يذهب إليه ـ : «أبرأ من القدريّة الّذين حملوا ذنوبهم على الله ومن المرجئة الّذين أطمعوا الفسّاق». هذا، ولقد أوضحنا المراد من الحديث في محلّه(2).
5 ـ الثنوية: المعتزلة يدعون بالثنوية و لعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم لقولهم


 
1 . لاحظ في الوقوف على هذه الوجوه كشف المراد للعلامة الحلي ص 195، وشرح المقاصد للتفتازاني ج 2 ص 143، وقد مضى الكلام في سند الحديث ودلالته في فصل القدرية من هذا الجزء فلاحظ.
2 . لاحظ الجزء الأول من الملل والنحل للمؤلف ص 103 ـ 109 ولاحظ الالهيات في ضوء الكتاب والسنة والعقل: محاضراتنا الكلامية بقلم الفاضل الشيخ حسن مكي.


الخير من الله والشرّ من العبد.
وهناك وجه آخر لتسميتهم بالثنويّة، أو المجوسيّة، وهو أنّ المعتزلة قالت باستقلال الإنسان في ايجاد فعله، بل نقل عن بعضهم القول بحاجة الموجود في حدوثه إلى الواجب دون بقائه و استمراره، فصيّروا الإنسان كأنّه مستقلّ فى فعله، بل صيّروا الممكنات كواجب غنىّ عن العلّة في بقائه و استمراره، دون حدوثه.
ولكنّ النسبة غير صحيحة، إلاّ إلى بعض المتأخّرين من المعتزلة، ولم يظهر لنا أنّ المتقدّمين منهم كانوا على هذا الرأي.
6 ـ الوعيديّة: و إنّما اُطلقت عليهم هذه الكلمة لقولهم بالوعد والوعيد، وأنّ الله صادق في وعده، كما هو صادق في وعيده و أنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ولا يغفر له جزماً و يخلّد في النار و يعذّب عذاباً أضعف من عذاب الكافر.
7 ـ المعطّلة: أي تعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية، وهذا اُلصق بالجهميّة الّذين يعدّون في الرعيل الأوّل فى نفي الصفات.وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان:
1 ـ القول بالنيابة، أي خلوّ الذات عن الصفات ولكن تنوب الذات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم «خذ الغايات واترك المبادئ»، وهذا مخالف لكتاب الله و السنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة، وأمّا العقل، فحدث عنه ولا حرج، لأنّ الكمال يساوق الوجود وكلّما كان الوجود أعلى و أشرف يكون الكمالات فيه آكد.
2 ـ عينيّة الصفات مع الذات و اشتمالها على حقائقها. من دون أن يكون ذات وصفة، بل الذات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم والقدرة.
وهذا هو الظاهر من خطب الإمام أمير المؤمنين ـعليه السلامـ ، وتعضده البراهين


العقليّة و إطلاق المعطّلة على هذه الطائفة لا يخلو من تجنّ وافتراء.
والأولى بهذا الاسم أهل الحديث و الحنابلة، فإنّهم المعطِّلة حقيقة، إذ عطّلوا العقول عن معرفة الله و أسمائه و صفاته و أفعاله، ومنعوا الخوض فى المسائل العقليّة، وكأنّ العقل خلق لا لغاية إلاّ للسعي وراء الحياة الماديّة.
8 ـ الجهميّة:(1) وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فكلّما يقول: قالت الجهميّة، أو يصف القائل بأنّه جهمي يريد به المعتزلة لما وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل، و إن كانت الجهمية متقدّمة على المعتزلة، لكنّها على زعمهم مهّدوا السّبيل للمعتزلة ، مع أنّك عرفت أنّ واصلاً أرسل أحد تلاميذه إلى معارضته و أنّهم لا يعدّون الجهم من رجالهم أو طبقاتهم لاختلافهم معه في بعض المسائل الجوهرية، فإنّ الجهم جبريّ والمعتزلة قائلة بالاختيار، ولعلّ بعض هذه التسميات من مصاديق قوله سبحانه (ولا تنابزوا بالألقاب)(الحجرات/11).
9ـ المفنية:
10 ـ اللفظيّة:
وهذان اللقبان ذكرهما المقريزي وقال: أنّهم يوصفون بالمفنية لما نسب إلى أبى الهذيل من فناء حركات أهل الجنّة و النار، واللّفظيّة لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة والقبريّة لانكارهم عذاب القبر(2).


 
نسبة إلى الجهم بن صفوان، وقد عرفت القول في عقائده وآرائه وأنّ المهم منه أمران: نفي الرؤية والجبر.
الخطط للمقريزي: ج 4، ص 169.


و خطب الإمام عليّ ـ عليه السلام ـ
قد تعرّفت فيما مضى على تأريخ ظهور المعتزلة و أنّ الاعتزال بعنوان المنهج الفكري العلمي لا السياسي يرجع إلى أوائل القرن الثاني، وذلك عندما اعتزل واصل بن عطاء عن حلقة الحسن البصري و شكّل حلقة دراسية فكريّة في مقابل اُستاذه، والقرائن القطعيّة تؤكّد بظهوره في أوائل ذلك القرن، فإنّ واصل بن عطاء من مواليد عام 80 من الهجرة، وقد توفّي اُستاذه الحسن البصري عام 110، فمن البعيد أن يستطيع إنسان على تشكيل حلقة دراسيّة قابلة للذكر في مقابل الخطيب الحسن البصري، وله من العمر دون العشرين. وهذا يؤكّد على أنّ الاعتزال ظهر في أوائل القرن الثاني.
ثمّ إنّ القول بالمنزلة بين المنزلتين و إن كان يعدُّ منطلق الاعتزال، ومغرس بذره، ولكن حقيقة الاعتزال لا تقوم بهذا الأصل، ولا يعدّ الدرجة الاُولى من اُصوله، فإنّ الأصلين التوحيد والعدل يعدّان حجر الأساس لهذا المنهج، وسائر الاُصول في الدرجة الثانية.
وفي ضوء هذا يقف القارئ بفضل النصوص الآتية على أنّ الاعتزال أخذ ذينك الأصلين من البيت العلويّ عامّة، ومن خطب الإمام عليّ ـعليه السلامـ وكلماته خاصّة، ولأجل ذلك يجب أن يعترف بأنّ الاعتزال أخذ الاُصول الأصليّة لمنهجه من بيت الولاية.
ولأجل ايقاف القارئ هذا الاستنتاج، نضع أمامه شواهد من التأريخ والاعترافات الّتي أجهر بها شيوخ المعتزلة:
1 ـ هذا هو الكعبي إمام المعتزلة في أوائل القرن الرابع يقول: «والمعتزلة يقال إنّ لها و لمذهبها أسناداً تتّصل بالنبيّ وليس لأحد من فرق الاُمّة مثلها، وليس يمكن لخصومهم دفعهم


عنه، وهو أنّ خصومهم يقرّون بأنّ مذهبهم يسند إلى واصل بن عطاء، وأنّ واصلاً يسند إلى محمّد بن عليّ بن أبي طالب و ابنه أبي هاشم عبدالله بن محمد بن علي، وأنّ محمّداً أخذ عن أبيه علىّ و أنّ علياً عن رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم(1).
2 ـ كان واصل بن عطاء من أهل المدينة ربّاه محمّد بن عليّ بن أبي طالب و علّمه، وكان مع ابنه أبي هاشم عبدالله بن محمّد في الكتاب، ثمّ صحبه بعد موت أبيه صحبة طويلة، وحكي عن بعض السّلف أنّه قيل له: كيف كان علم محمّد بن عليّ؟ فقال: إذا أردت أن تعلم ذلك فانظر إلى أثره في واصل. ثمّ انتقل واصل إلى البصرة فلزم الحسن ابن أبي الحسن (2).
3 ـ وقال القاضي عبد الجبّار في «طبقات المعتزلة»: «وأخذ واصل العلم عن محمّد بن الحنفيّة وكان خالاً لأبي هاشم وكان يلازم مجلس الحسن»(3).
وما ذكره القاضي لا ينطبق على الحقيقة، فإنّ واصل بن عطاء الغزّال ولد بالمدينة سنة ثمانين، وقد مات محمّد بن الحنفيّة عام 80 أو 81، فلا يصحّ أخذ العلم منه، والصّحيح أن يقال أخذ واصل العلم من أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة، وقد نقل المحقّق أنّ في حاشية الأصل «من أبي هاشم».
والصّحيح ما في عبارته التالية، قال:
4 ـ وقال: «إنّ أبا الهذيل قد أخذ هذا العلم عن عثمان الطّويل، وأخذ هو عن واصل بن عطاء و عمرو بن عبيد، وأخذ واصل و عمرو عن أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة، وأخذ أبو هاشم عن أبيه محمّد بن الحنفيّة، وأخذ محمّد عن أبيه عليّ بن أبي طالب ـعليه السلامـ وأخذ عليّ عن النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم»(1).
وقد تنبّه الشريف المرتضى لما ذكرنا. قال: «وذكر أبو الحسين الخيّاط أنّ واصلاً كان من أهل مدينة الرسولصلَّى الله عليه و آله و سلَّم ومولده سنة ثمانين و مات سنة إحدى و ثلاثين و مائة. وكان واصل ممّن لقى أبا هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وصحبه، و أخذ عنه و قال قوم إنّه لقى أباه محمّداً و ذلك غلط، لأنّ محمّداً توفّي سنة ثمانين أو إحدى و ثمانين و واصل ولد في سنة ثمانين»(2).
5 ـ وقال القاضي أيضاً: «فأمّا أبو هاشم عبدالله بن محمّد بن عليّ، فلو لم يظهر علمه و فضله إلاّ بما ظهر عن واصل بن عطاء لكفى، وكان يأخذ العلم عن أبيه.
فكان واصل بما أظهر بمنزلة كتاب مصنّفه أبو هاشم، وذكر قوله فيه. وكذلك أخوه، فإنّ غيلان يقال إنّه أخذ العلم من الحسن بن محمّد بن الحنفيّة أخي أبي هاشم»(3).
6 ـ وقال الشهرستاني: «يقال أخذ واصل عن أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة»(4).
7 ـ وقال ابن المرتضى: «وسند المعتزلة لمذهبهم أوضح من الفلق، إذ يتّصل إلى واصل و عمرو اتّصالاً شاهراً ظاهراً. وهما أخذا عن محمّد بن علي بن أبي طالب وابنه أبي هاشم عبدالله بن محمد، ومحمّد هو الذي ربّى واصلاً و علّمه حتّى تخرّج واستحكم. ومحمّد أخذ عن أبيه عليّ بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ عن رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم».



 
ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين للبلخي: ص 68.
ذكر المعتزلة للكعبي: ص 64.
طبقات المعتزلة: ص 234.




 
المصدر نفسه: ص 164.
أمالي المرتضى: ج 1، ص 164 ـ 165.
طبقات المعتزلة: ص 226.
الملل والنحل: ج 1 ص 49.


8 ـ وقال أيضاً: «ومن أولاد عليّ ـعليه السلامـ أبو هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وهو الّذي أخذ عنه واصل وكان معه في المكتب فأخذ عنه و عن أبيه، وكذلك أخوه الحسن بن محمّد اُستاذ غيلان و يميل إلى الإرجاء»(1).
9 ـ وقال ابن أبي الحديد: «إنّ أشرف العلوم هوالعلم الإلهي، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم و معلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم و من كلامه (عليّ عليه السلام) اقتبس و عنه نقل، ومنه ابتدأ وإليه انتهى. فإنّ المعتزلة ـ الّذين هم أهل التوحيد والعدل و أرباب النظر، ومنهم تعلّم الناس هذا الفنّ ـ تلامذته و أصحابه، لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة. وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه عليه السلام»(2).
10 ـ وقال المرتضى في أماليه: «اعلم أنّ اُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ و خطبه، فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه ولا غاية وراءه، و من تأمّل المأثور في ذلك من كلامه، علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعد في تصنيفه و جمعه، إنّما هو تفصيل لتلك الجمل و شرح لتلك الاُصول، وروي عن الأئمّة (من أبنائه ـ عليهم السلام ـ) من ذلك ما يكاد لا يحاط به كثرة، ومن أحبّ الوقوف عليه و طلبه من مظانّه أصاب منه الكثير الغزير الّذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة، ونتاج للعقول العقيمة»(3).
11 ـ وقال القاضي عبدالجبّار: «وهذا المذهب ـ أعني صاحب الكبيرة لايكون مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً بل يكون فاسقاً ـ أخذه واصل بن عطاء عن أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وكان من أصحابه»(4).


 
المنية والأمل: ص 5 ـ 6 وص 11.
الشرح الحديدي: ج 1 ص 17.
أمالي المرتضى: ج 1 ص 148.
شرح الاُصول الخمسة: ص 138


12 ـ وقال الدكتور حسن إبراهيم حسن: «فقد نسبت المعتزلة عقائدها إلى عليّ ابن أبي طالب، و قلّما نجد كتاباً من كتبهم و على الأخصّ كتب المتـأخّرين منهم إلاّادّعوا فـيه أنّهُ ليس ثمّة مؤسّس لمذهب الاعـتزال و علم الكـلام غير الإمام عليّ ـ عليه السلام ـ »(1).
13 ـ يقول محقّق كتاب شرح الاُصول الخمسة: «ويؤكّد المعتزلة أنّهم تلقّوا هذه الاُصول عن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويذكرون سندهم في ذلك و نحن نثبت فيما يلي هذاالسند ـ كما على أوّل ورقة من شرح الاُصول(2) ـ تعليق الفرزاذي .
يقول:أخذهذه الاُصول من الفقيه الإمام الأوحد نجم الدين أحمد بن أبي الحسين الكني، وهو عنالفقيه الإمام الأجلّ محمّد بن أحمد الفرزاذي، وهو عن عمّه الشيخ السعيد البارع إسماعيل بن عليّ الفرزاذي، وهو عن محمّد بن مزدك، وهو عن أبي محمّد بن متّويه، وهو عن الشيخ أبي رشيد النيسابوري، وهو عن قاضي القضاة عماد الدين عبد الجبار بن أحمد ـ رحمه الله ـ وهو عن الشيخ المرشد أبي عبدالله البصري، و هو عن الشيخ أبي علي ابن خلاّد، و هو عن الشيخ أبي هاشم و هو عن أبيه الشيخ أبي علي الجبائي وهو عن أبي يعقوب الشحام، وهو عن عثمان الطّويل، وهو عن الشيخ أبي الهذيل، وهو عن واصل ابن عطاء، وهو عن أبي هاشم (3)محمّد بن الحنفية، وهو عن أبيه أمير المؤمنين عليّ ـعليه السلامـ وهو عن خير الأوّلين والآخرين و خاتم النبيّين محمد المصطفى ـ صلوات اللّهعليه ـ وهو عن جبرئيل ـعليه السلامـ وهو عن الله تعالى وليس لأحد من أرباب المذاهب مثل هذا الإس(4)ناد. أفبعد هذه التصريحات يبقى شكّ في أنّ المعتزلة في اُصولهم عالة لعلوم أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ .


 
تاريخ الاسلام: ج 2، ص 156، الطبعة السابعة.
النسخة المخطوطة.
وفي العبارة سقط والصحيح: «عبدالله بن محمد عن أبيه».
مقدمة شرح الاُصول الخمسة ص 24.


وسيوافيك التصريح من القاضي عبد الجبّار أنّ اُصول الاعتزال ترجع إلى أصلين : التوحيد والعدل، وأمّا الاُصول الثّلاثة فهي داخلة تحت الأصلين وقد عرفت أنّ المعتزلة أخذت الأصلين من أئمّة أهل البيت ـعليهم السلام ـ.
14ـ وقال أبو سعيد بن نشوان الحميري(ت573) إنّ لمذهب المعتزلة أسانيد تتصل بالنبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و ليس لأحد من فرق الاُمة مثلهم، و لا يمكن لحضومهم دفعه و ذلك ان مذهبهم مستند إلى واصل بن عطاء و ان واصلا يستند إلى محمد بن علي بن أبي طالب و هو ابن الحنفيه، و إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي و ان محمد يسند إلى ابنه علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ و إن علياً يسند إلى النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم (1) .
15ـ و قال بن المرتضى: و سند مذهبهم أصح أسانيد أهل القبلة إذ يتصل إلى واصل و عمرو عن عبد الله بن محمد عن أبيه محمد بن علي بن الحنفيه عن أبيه علي ـعليه السلام ـ عنه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و ما ينطق عن الهوى (2).
كَلاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةً * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَه)
أقول: لولا أنّ النوبختي ذكر بعد نقل هذه الرواية قوله: «وأنّهم صاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد» لأمكن المناقشة في كونه وجه التسّمية، و أنّ الاعتزال بالطابع الفكري والعقلي كان استمراراً للاعتزال بطابعه السياسي. إذ من الممكن أن تستعمل كلمة واحدة في طائفتين يجمعهما جامع وهو العزلة وترك الجماعة. فهؤلاء الّذين خذلوا عليّاً بترك البيعة والحرب معه ضدّ الناكثين والقاسطين معتزلون، كما أنّ واصل بن عطاء و تلاميذه معتزلون لأجل تركهم مجلس درس اُستاذه و تلاميذه كما يأتي في الرواية الاُخرى. واطلاق كلمة واحدة على الطائفتين اللّتين لهما طابعان مختلفان لا يدلّ على أنّ الطائفة الثانية هي استمرار للاُولى. و إنّما يمنعنا عن ردّ هذه النّظرية على وجه القطع هو صراحة كلام النوبختي في ذلك.

الحور العين: 206.
البحر الزخار 1: 44.
فرق الشيعة: ص 5 طبع النجف عام 1355 هـ.
 وقعة صفين ص 620 ـ 621 طبع مصر.
فضل الاعتزال ص 13 ـ 14.


وهناك رواية اُخرى تدلّ على أنّ تسميتهم بهذا اللّقب لاعتزالهم عن الحسن بن عليّ و معاوية، نقله الملطي (المتوفّى عام 373) في «التنبيه والردّ» واستحسنه الكوثري(1) وحسب أنّه وقف على أمر بديع. يقول الملطي: «وهم سمّوا أنفسهم معتزلة وذلك عندما بايع الحسن بن عليّ ـ عليهما السلام ـ معاوية وسلّم إليه الأمر اعتزلوا الحسن بن علي و معاوية و جميع الناس، وذلك أنّهم كانوا من أصحاب علي ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا نشتغل بالعلم والعبادة و سمّوا بذلك معتزلة»(2).
أقول: هذا الرأي قريب من جهة، لأنّ المعتزلة أخذوا تعاليمهم في التوحيد والعدل عن عليّ ـ عليه السلام ـ كما سيأتي، فليس ببعيد أن يرجع وجه التسمية إلى زمن تصالح الإمام الحسن ـ عليه السلام ـ مع معاوية.
ومع ذلك كلّه، يمكن أن يقال فيه مثل ما قلناه في النظرية السابقة، وهو أنّه كانت طائفتان مختلفتان لا صلة بينهما سوى الاشتراك الاسمي، ظهرت إحداهما بعد صلح الحسن ـعليه السلامـ وكان لها طابع سياسي، وظهرت الاُخرى في زمن الحسن البصري عند اعتزال واصل عن حلقة بحثه كما سيأتي بيانه، لها طابع عقلي.
وهناك إشكال آخر يتوجّه على رواية الملطي حيث قال: «وهم سمّوا أنفسهم


 
تعليق «تبيين كذب المفتري» ص 10.
التنبيه والرد ص 26.


معتزلة» وهو أنّ لفظ الاعتزال ليس لفظاً يعرب عن المنهج حتّى يطلقوا هذا الاسم على أنفسهم، إن لم يكن فيه دلالة على ذمّ ما.
وهناك رواية ثالثة رواها ابن دريد يتحدّث عن بني العنبر قال: «ومن رجالهم في الإسلام عامر بن عبدالله يقال له عامر بن عبد قيس، وكان عثمان بن عفّان كتب إلى عبدالله بن عامر أن يسيّره إلى الشام، لأنّه يطعن عليهم وكان من خيار المسلمين وله كلام في التوحيد كثير، وهو الّذي اعتزل الحسن البصري فسمّوا المعتزلة»(1).
وروى أبو نعيم بالإسناد عن الحسن البصري أنّه قال: «كان لعامر بن عبدالله بن عبد قيس مجلس في المسجد فتركه حتّى ظننّا أنّه قد ضارع أصحاب الأهواء، قال: فأتيناه فقلنا له: كان لك مجلس في المسجد فتركته؟ قال: أجل، إنّه مجلس كثير اللغط والتّخليط، قال: فأيقّنا أنّه قد ضارع أصحاب الأهواء، فقلنا: ما تقول فيهم؟ قال: وما عسى أن أقول فيهم ... الخ» ، ونقل أبو نعيم الاصفهاني أيضاً أنّه عتب أبو موسى الأشعري(2) عامربن عبد قيس اعتزاله مجلسه الّذي اعتاده في المسجد، فكتب إليه قائلاً:
«فإنّي عهدتك على أمر وبلغني أنّك تغيّرت فاتّق الله و عد»(3).
وقال المعلِّق على كتاب «فضل الاعتزال»: إذا كان ابن دريد و أبو نعيم لم يحدّدا لنا زمن اعتزال عامر بن عبد قيس، فمن الممكن أن نستنتج أنّه تمّ في خلال تسع سنوات من سنة 35 وهو تأريخ اعتزال جماعة سعد بن أبي وقّاص إذ عناهم الحسن البصري في حديثه، إلى سنة 44 وهو تأريخ وفاة أبي موسى الأشعري إذ أفاد أبو نعيم أنّه عاتب عامر لاعتزاله مجلسه».


 
 الاشتقاق ج 1 ص 213 كما في تعاليق «فضل الاعتزال» ص 15.
كان أبو موسى والي الكوفة أواخر خلافة عثمان إلى عام 36، حتّى عزله علي ـ عليه السلام ـ لأجل قعوده عن نصرة الامام.
حلية الأولياء: ج 2 ص 93 ـ 95.


يلاحظ عليه: أنّ الحسن البصري ولد بالمدينة عام (21)، ثمّ سكن البصرة وتوفّي عام (110)، فمن البعيد أن يكون له مجلس بحث في المسجد وهو من أبناء العشرين أو دونه، فلو صحّ ما حدّده المعلّق من زمن الاعتزال يلزم أن يكون له مجلس بحث في المسجد بين أعوام 35 ـ 44، ويكون عامر بن عبدالله الشخصيّة المعروفة أحد حضّار بحثه، وقد قدّر الزركلي في كتابه «الأعلام» وفاة عامر نحو سنة (55)(1).
ثمّ إنّ عتب أبي موسى لا يصحّ أن يكون في خلال تسع سنوات بين أعوام 35 ـ 44 لأنّه عزل عن الولاية عام 36 و غادر الكوفة ولم يرجع إليها، ولـمّا أصدر حكمه الجائر في دومة الجندل ضدّ عليّ ـ عليه السلام ـ خاف من انتفاضة الناس و ثورتهم عليه، وغادرها إلى مكّة المكرّمة ومات بها عام 43 أو 44. ولو صحّ عتابه لكان قبل سنة 36، وهذا يستلزم أن تكون للحسن حلقة بحث في أوان البلوغ، وهو بعيد، مع وجود وجوه الصّحابة وأكابر التّابعين في الكوفة.
ثمّ لو صحّت الرواية لما صحّ أن يكون عامر بن عبدالله، المؤسّس الأوّل لمذهب الاعتزال و إن استعمل في حقّه كلمة الاعتزال، لأنّ كلمة الاعتزال في تلك العصور كانت رمزاً للتخلّف عن الفكرة السائدة على المجتمع، فمن خالف الفكرة و انحاز عنها، أطلق على فعله الاعتزال و على نفسه المعتزل، ازدراءً به، وتلك الكلمة بمنزلة الرجعية في أعصارنا هذه، و ما جاء في تلك الروايات إشارة إلى أنّ هؤلاء اعتزلوا عن السياسة السائدة على المجتمع كما في اعتزال سعدبن أبي وقّاص و نظائره. أو اعتزال جماعة عن الحسن بن عليّ ـ عليهما السلام ـ أو عن الفكرة الدينيّة كما في الرواية الثالثة. والحقّ في التسمية ما نذكره في القول الرابع وقد تواتر نقله.
قد عرفت أنّ حكم مرتكب الكبيرة قد أوجد ضجّة كبيرة في الأوساط الإسلاميّة